سنوات مضت ولاتزال الحرب الروسية الأوكرانية مشتعلة، مشهد عسكري وسياسي يزداد تعقيدا يوما تلو الآخر، حرب تحولت تدريجيا إلى واحدة من أطول وأقسى حروب الاستنزاف في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، حرب لا مؤشرات واضحة على نهايتها قريبا.
فعلى أرض الواقع، تكشف الأرقام حجم المفارقة الصادمة.. فبعد سنوات من القتال العنيف، لم تتجاوز نسبة التقدم الروسي 1.45% فقط من إجمالي مساحة أوكرانيا _ نسبة ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بحجم الخسائر البشرية الهائلة، التي تشير تقديرات غربية وروسية غير رسمية، إلى أنها تجاوزت المليون فرد بين قتيل وجريح من كلا الطرفين، في واحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين.
ورغم الزخم العسكري الروسي المستمر، ورغم المكاسب الميدانية الروسية، إلا أن روسيا تسيطر على أي مدينة أوكرانية كبرى.. فالمدن المحورية ماتزال صامدة، وعلى رأسها مدينة بوكروفسك، التي تحولت إلى رمز للمقاومة الأوكرانية، بعدما صمدت لأكثر من عام كامل تحت القصف والهجمات المتواصلة، لتؤكد أن المعركة لم تعد مجرد تقدم بري، بل صراع إرادات طويل النفس.
تقدم روسي، بإيقاع البطيء، يطرح تساؤلات استراتيجية عميقة، فحسابات الزمن تشير إلى أنه إذا استمرت العمليات العسكرية بالمعدل الحالي، فلن تتمكن موسكو من استكمال السيطرة الكاملة على شرق أوكرانيا قبل عامين قادمين أو يزيد على أقل تقدير، وهو ما يعني أن الحرب، بدل أن تُحسم بالسلاح، تتحول إلى سباق استنزاف مفتوح، تستهلك فيه الموارد والقدرات دون حسم واضح.
وفي المقابل، لا تبدو أوكرانيا في وضع أفضل بكثير، فكييف، رغم الدعم الغربي العسكري واللوجستي، تدفع هي الأخرى ثمنا باهظا، فالمدن الأوكرانية تحولت إلى ساحات قتال مفتوحة، والبنية التحتية تعرضت لدمار واسع، لاسيما تراجع القدرة البشرية مع استمرار التعبئة والخسائر.
وبمرور الوقت، تتغير طبيعة المعارك، فلم تعد المعركة قائمة على اجتياحات خاطفة أو تغييرات جذرية في خرائط السيطرة، بل على إنهاك الخصم تدريجيا، وفرض معادلات ميدانية طويلة الأمد، حرب لا غالب فيها حتى الآن، ولا مهزوم يعلن الانسحاب.. فالمشهد يؤكد ألا روسيا تمتلك القدرة على حسم الحرب عسكريا في المدى القريب، ولا أوكرانيا قادرة، بالوسائل الحالية، على استعادة كامل أراضيها بالقوة؛ موسكو تصطدم بعقبات بشرية واقتصادية وسياسية، في ظل عقوبات دولية خانقة وضغوط داخلية متصاعدة، كما تواجه كييف تحديات تتعلق باستدامة الدعم الغربي، وتراجع الحماس الشعبي في بعض العواصم الأوروبية لإطالة أمد الصراع.
وفي الخلفية، تلعب القوى الكبرى دورا حاسما في إطالة أو تقصير أمد الحرب، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يواصلون دعم أوكرانيا، لكن بسقف محسوب يمنع الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، وفي المقابل، تراهن موسكو على عامل الوقت، وعلى تآكل الإرادة الغربية، وعلى تغيرات سياسية محتملة في أوروبا والولايات المتحدة قد تعيد رسم موازين الدعم.
ووسط هذا وذاك؛ يبرز سؤال التسوية السياسية "هل اقترب وقت للصلح؟!" المعطيات الحالية تشير إلى العكس تمامًا؛ فلا أحد من الطرفين مستعد لتقديم تنازلات جوهرية ترضي الطرف الآخر.. روسيا ترى أن التراجع يعني هزيمة استراتيجية، وأوكرانيا تعتبر أي تسوية تنتقص من أراضيها خيانة لتضحيات شعبها.
وهنا يبقى الصراع الروسي الأوكراني مفتوحا على كل الاحتمالات.. وتبقى نموذجا صارخا لحروب العصر الحديث، حيث لا تُحسم المعارك بسرعة، ولا تُرسم النهايات بسهولة، وتظل أوكرانيا ساحة مواجهة مفتوحة، يدفع المدنيون الثمن الأكبر، وتبقى أوروبا كلها أمام اختبار تاريخي طويل الأمد.