هدية أم رشوة.. كيف حسم النبي ﷺ قضية هدايا الموظفين؟
هدية أم رشوة؟، سؤال يرتبط بكل ما يتحصل عليه الموظف أثناء العمل فكيف يفرق بينهما، ومتى يكون المعروض عليه رشوة محرمة؟
النبي ﷺ حسم قضية هدايا الموظفين
يقول الدكتور أحمد علي سليمان عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية إن النبي ﷺ حسم قضية هدايا الوظيفة.
فقد جاء عن أبي حميد الساعدي (رضي الله عنه) أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ علَى صَدَقاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جاءَ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وحاسَبَهُ، قالَ: هذا الذي لَكُمْ، وهذِه هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فقالَ رَسولُ اللَّهِ (ﷺ): فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وبَيْتِ أُمِّكَ حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صادِقًا! ثُمَّ قامَ رَسولُ اللَّهِ (ﷺ)، فَخَطَبَ النَّاسَ وحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ رِجالًا مِنكُم علَى أُمُورٍ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي أحَدُكُمْ فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وهذِه هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وبَيْتِ أُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كانَ صادِقًا! فَواللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مِنْها شيئًا -قالَ هِشامٌ: بغيْرِ حَقِّهِ- إلَّا جاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيامَةِ، ألَا فَلَأَعْرِفَنَّ ما جاءَ اللَّهَ رَجُلٌ ببَعِيرٍ له رُغاءٌ ، أوْ ببَقَرَةٍ لها خُوارٌ، أوْ شاةٍ تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْتُ بَياضَ إبْطَيْهِ: ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟ (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه)
وتابع: يحكي لنا هذا الحديث الشريف قصةً مهمة أراد سيدنا النبي (ﷺ) من خلالها أن يضع النقاط على الحروف وبشكل حاسم في قضية مهمة جدا وهي الهدايا التي تُقدم للموظفين أو ما يمكن أن نطلق عليه (هدايا الوظيفة)، مستهدفا حماية المال العام، وصيانةَ الأمانة، وحماية المجتمع، وحماية الأفراد حتى من أنفسهم، وإغلاقَ أبواب الفساد قبل أن تُفتح.
لقد أرسل النبي (ﷺ) رجلًا يُسمّى "ابن اللُّتْبِيَّةِ"؛ ليجمع صدقات قبيلة بني سليم، فلما رجع الرجل، قدّم المال الذي جمعه، وقال للنبي (ﷺ) بمنتهى الثقة: “هذا المال لكم، وأما هذا فقد أُهدي إليَّ”!!.
وأضاف: قد استغرب النبي العظيم (ﷺ) مِن صنيع هذا الرجل، الذي خلط بين الحق والباطل، والذي خانته نفسه... هنا علّمه النبي (ﷺ) -وجموع المسلمين- درسًا عظيمًا بليغًا في الصدق والأمانة واحترام مقتضيات الوظيفة أو المهمة التي أنيطت به... فقال له بأسلوب حكيم وحاسم: (فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وبَيْتِ أُمِّكَ حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صادِقًا؟!) أي: لو كنتَ جالسًا في بيت أبيك وأمك، بلا ولاية ولا مسؤولية ولا وظيفة أو مهمة كُلفتَ بها، هل كانت هذه "الهدية" ستصل إليك؟، بل لو لم تُكلَّف بهذه المهمة أصلًا، أفكان أحد سيطرق بابك حاملًا هدية؟! الجواب قطعًا: لا.
ولفت إلى أنه ما دامت الهدية لا تأتيك إلا مع المنصب أو الوظيفة أو المهمة، فليست هدية، بل جاءتك بسبب عملك لا بسببك... وهكذا فالهدية التي تُقدَّم للموظف بسبب وظيفته ليست هدية، بل حقٌّ للناس، وفسادٌ إن قُبِل.
ثم قام النبي (ﷺ) خطيبا في الناس، ليقطع هذا الباب نهائيًّا، فأوضح لهم بمعنى واضح أن بعض الناس أُولّيهم أعمالًا من المال العام، فيرجعون ويقولون: هذا لكم، وهذه هدية لي!
ولو كان صادقًا، فليجلس في بيت أهله لينظر: هل سيهديه أحد؟!.
ثم اشتدّ تحذيره (ﷺ)، وأقسم بالله موضحا للعالمين أن مَن يأخذ شيئًا من المال العام بغير حق، فإنه سيحمله يوم القيامة على رقبته. فمن أخذ بعيرًا، سيأتي يوم القيامة يحمله وهو يصرخ بصوته، ومن أخذ بقرةً أو شاةً، سيأتي بها وهي تخور أو تيعر، ويا لها مِن فضيحةً أمام أمام الأشهاد يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتي الله بقلب سليم.
ثم رفع النبي (ﷺ) يديه حتى ظهر بياض إبطيه، وقال: (ألا هل بلَّغت؟) أي: اللهم اشهد أني بلّغت الأمة وحذّرتها يا رب العالمين.

ونتعلم من هذا الموقف دروسا عظيمة ، منها:
1. أن الصدق والأمانة أساس العمل العام، والموظف مسؤول أمام الله (سبحانه وتعالى) عن كل شيء قبل أن يكون مسؤولًا أمام الناس.
2. أن الهدايا التي تُقدَّم للموظفين بسبب مناصبهم أو صِلاتهم الوظيفية محرَّمة؛ لأنها ليست هدايا حقيقية، وإنما تُمنح طمعًا في أمر أو طلبًا لمنفعةٍ أو مصلحة. ومن ثم فإن كلُّ ما أُعطي بسبب المنصب أو رجاء نفعٍ يملكه الموظف و يستطيع تيسيره مم خلال غيره، فهو في حكم الرشوة المحرَّمة، أما ما قُدِّم على وجه المودّة الصادقة، منفصلًا تماما عن الوظيفة ومصالحها، وبعيدًا عن كل شبهة نفع، فهو وحده الذي يُعدّ هديةً.
3. قطع الطريق على الفساد من جذوره، فالنبي (ﷺ) لم يسكت وهو المعلم الأعظم، بل أعلن الحكم أمام الجميع حتى لا يتكرر.
4. أن المال العام أمانة عظيمة، ومن خان فيه فضحه الله يوم القيامة بحمل ما سرقه أمام الأشهاد.
5. أن القوة في الحق جزء من الرحمة، والنبي الرحيم (ﷺ) يشدد حين يتعلق الأمر بالأمانات وحقوق الناس.
وشدد على أنَّ الورعَ أمام هدايا الوظيفة خُلُقٌ جليل، يُجسِّد نقاء الضمير والسريرة، وطهارة اليد، وسموَّ الأمانة؛ فهو السياج الذي يحفظ للموظف نزاهته وكرامته أمام الله وملائكته وأمام الناس وأمام نفسه، ويصون المال العام من كل شبهة تُدنِّس صفاءه.
والموظف الورِع هو الذي يترفّع عن مواطن الريب مهما صغرت، فلا يمدُّ يده إلى ما يختلط فيه الحق بالباطل، ولا يقبل ما يُقدَّم إليه بسبب منصبه أو نفوذه الوظيفي؛ لأنه يعلم في قرارة نفسه أنّ ذلك بابٌ إلى الفساد، وإن تَزيَّن بلباس الهدية.
واختتم: حتى إذا اضطر إلى قبول شيء حياءً أو لا يستطيع ردَّه في حينه، فإن أخلاق البر والتقوى تقتضي أن يضعه في صندوق تخصصه الدولة لمثل هذه الهدايا؛ ليحفظ نفسه وسمعته، وأهله من أكل السحت في الدنيا، ومن الفضيحة أمام الأشهاد يوم القيامة، ولتبقى الوظيفةُ نظيفة لا تُشترى ولا تُستمال، ولتظلَّ الأمانةُ عنوانًا للنهضة ورأسَ مالِ الأمم والشعوب والأفراد.





