باحث: صعيد مصرمنارة التصوف السني ومهد الإنشاد الديني | خاص
قال الباحث الصوفي مصطفى زايد إن صعيد مصر يمثل نموذجاً فريداً في الحفاظ على روح التصوف السني الأصيل وتطوير فنون الإنشاد الديني الموروث، مؤكداً أن الجنوب المصري لم يكن يوماً هامشاً جغرافياً، بل كان قلباً نابضاً للتدين الشعبي الأصيل، حيث يلتقي العلم بالزهد، والتراث بالموسيقى الروحية، في مزيج يعبر عن هوية روحية ضاربة في جذور التاريخ.
وأوضح مصطفى زايد في تصريح خاص لنيوز رووم أن الخصوصية الجغرافية لوادي النيل في الصعيد أسهمت في حفظ الموروث الديني والروحي، فامتداد الوادي بين سلاسل الجبال شرقاً وغرباً خلق مجتمعات متماسكة ومنغلقة نسبياً، مما جعلها أقل تأثراً بالتحولات السياسية والاجتماعية السريعة في الشمال، فصارت حاضنة طبيعية للتصوف السني, وهذا ما أشار إليه الباحث حسن الباسلي في دراسته «القيم في مجتمع الصعيد»، كما أكد د. عبد الوهاب المسيري في موسوعته الفكرية على خصوصية هذه المجتمعات في بنيتها الثقافية والاجتماعية.
الهجرة التاريخية لأشراف آل البيت إلى صعيد مصر
ويرى مصطفى زايد أن الهجرة التاريخية لأشراف آل البيت إلى صعيد مصر شكّلت معْلماً حاسماً في تكوين الهوية الروحية للمنطقة، إذ لجأت العديد من الأسر الهاشمية إلى الجنوب بعد سقوط الدولة الفاطمية، طلباً للأمان والاستقرار بعيداً عن الصراعات السياسية. وقد حظي هؤلاء الأشراف بمكانة دينية واجتماعية مرموقة، أسست الزوايا والمدارس القرآنية التي كانت نواة للتصوف السني القائم على العلم والورع. واستشهد زايد بما ورد في كتب الأنساب مثل «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم و*«تحفة الأحباب في بيان الأنساب»* لعمر مكي، فضلاً عن إشارات المقريزي في «المواعظ والاعتبار» إلى أثر تلك الهجرات في تشكيل البنية الدينية للصعيد.
الأقطاب الصوفية
وأضاف “ زايد” أن الأقطاب الصوفية من العلماء رسخوا قواعد التصوف السني القائم على العلم الشرعي والاتباع، مشيراً إلى الإمام عبد الرحيم القنائي الذي وصفه بأنه "قطب الصعيد"، وذكر سيرته في «تحفة الإخوان في مناقب الشيخ عبد الرحيم القنائي». كما أشار إلى الإمام أبي الحسن الشاذلي الذي قال: «أصولنا الكتاب والسنة وإجماع الأمة»، وإلى أولياء الله الصالحين مثل السلطان الفرغل في أسيوط، وسيدي أبي الحجاج الأقصري في الأقصر، والعارف بالله عبد الله الحسيني في سوهاج، الذين شكّلوا معالم بارزة للتصوف السني في الجنوب.
وأوضح “زايد " أن الزوايا في الصعيد تحولت إلى مراكز للتكافل والذكر والسلوى، وملاذٍ روحاني للفقراء والمهمومين. واستشهد بدراسة الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه «الحياة الاجتماعية في مصر الإسلامية» التي تناولت دور الزوايا في تحقيق التماسك الاجتماعي.
فن الإنشاد الديني
و أشار زايد إلى أن فن الإنشاد الديني في الصعيد هو التعبير الأسمى عن هذه الروح الجماعية، فإيقاعاته تنبع من نبض الأرض وجهد الإنسان اليومي، وتعتمد على آلات بسيطة كالدفوف والطبول والمزامير بإيقاعات تشبه دقات القلب أو خطوات القوافل. وأضاف أن المنشد الصعيدي يمتاز بالارتجال واستخدام مقامات تعبّر عن الشوق والحنين الروحي، وأن القصائد تمزج بين الفصحى والعامية، لتتحدث عن المديح النبوي وسير الأولياء والحكمة الشعبية. واستند زايد في تحليله إلى ما أورده الدكتور علي محمد عثمان في «الموسيقى والشعر في صعيد مصر»، والدكتور مصطفى جاد في «الإنشاد الديني في مصر» حول خصوصية المدرسة الصعيدية في الإنشاد.
وقال زايد:إن تميّز صعيد مصر في التصوف والإنشاد ليس ظاهرة دينية أو فنية فحسب، بل هو انعكاس لبنية ثقافية عميقة تشابكت فيها الجغرافيا مع التاريخ، والعلم مع الإيمان، والبيئة مع التعبير الجمالي. فالعزلة حفظت التراث، وهجرة الأشراف والأقطاب أسست القواعد، والظروف الاجتماعية خلقت الحاجة إلى السلوى، بينما صاغ الفن الصعيدي لغة الروح والكرامة.
وأضاف زايد: وهكذا ظل الصعيد من أسوان إلى الأقصر فإلى قنا وسوهاج وأسيوط، منارة للتصوف السني ومدرسة فريدة في الإنشاد الديني، تشهد أضرحة أوليائه ومدارسه حتى اليوم على عمق الجذور التي تمد الأمة بنور الإيمان والجمال الروحي.



