يقف كل من السودان وإثيوبيا والصومال عند مفترق طرق حرج، إذ تتقاطع أزماتهم الداخلية مع محيط إقليمي ودولي مضطرب، ليشكلوا ما يشبه ممرات مفتوحة للأزمات المتنقلة، حيث تتوالد الصراعات وتتشابك المصالح وتضيع معها فرص النجاة ثلاث دول مركزية في القرن الأفريقي، يشترك تاريخها في النزاعات، وتتشابه تحديات حاضرها في الانقسام، وتسير مجتمعة في سباق غير محسوب نحو المجهول.
في السودان، الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع تحولت إلى كارثة وطنية مفتوحة تلوح لها نهاية الخرطوم ودُمرت، المؤسسات المركزية ، والمجتمع الدولي عاجز عن فرض حل سياسي أو إنساني خارطة السيطرة العسكرية تتغير باستمرار، والمواطنون يدفعون الثمن نزوحًا وجوعًا وانعدامًا للرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية مدن كاملة أُفرغت من سكانها، ومناطق بأكملها تخضع لحكم الميليشيات، في حين أن الأطراف المتصارعة باتت مرتبطة بمحاور إقليمية تسلّح وتُمَوِّل وتضغط من خلف الستار الحرب لم تعد حربًا على السلطة فقط، بل معركة طويلة تُعيد تشكيل الدولة على أسس جديدة لا تزال ضبابية، ومفتوحة على مزيد من التفكك والانقسام.
إلى الشرق من السودان، تعاني إثيوبيا من أزمات داخلية لا تقل خطورة، فبعد سنوات من الحرب مع جبهة تحرير تغيراي، جاءت المواجهات في إقليمي الأمهرة وأوروميا لتؤكد أن مشروع الدولة الفيدرالية يواجه خطر الانهيار الحكومة المركزية برئاسة آبي أحمد تحاول الإبقاء على وحدة الدولة عبر القوة العسكرية، لكن الواقع الاثني والسياسي يقاوم هذا التوجه وفوق كل ذلك، تتجه إثيوبيا نحو خيارات استراتيجية مثيرة للجدل، أبرزها توقيع اتفاق مع "أرض الصومال" للحصول على منفذ بحري على خليج عدن، وهو الاتفاق الذي أثار صراعًا دبلوماسيًا واسعًا مع الصومال، وفتح الباب أمام احتكاكات إقليمية خطيرة، قد تتطور إلى مواجهات غير مباشرة.
في الطرف الجنوبي الشرقي من هذه الخريطة المأزومة، تعيش الصومال صراعًا متعدد الأوجه فمن جهة، تواجه الحكومة الفيدرالية تمردًا مستمرًا من حركة الشباب التي تسيطر على أجزاء كبيرة من الجنوب، وتنفذ هجمات متكررة داخل العاصمة وفي محيطها ومن جهة أخرى، تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع الخطوات الإثيوبية أحادية الجانب التي تُهدد وحدة أراضيها وسيادتها، خاصة أن "أرض الصومال" تتصرف كدولة مستقلة منذ عقود، رغم عدم الاعتراف الدولي وبين هذا وذاك، تعاني البلاد من أزمات اقتصادية حادة، وبنية تحتية متهالكة، ومجتمع دولي لا يمنحها سوى الدعم المشروط الذي لا يكفي لتثبيت الاستقرار أو استعادة السيطرة الفعلية على كامل أراضيها.
المشكلة الأعمق التي تربط بين السودان وإثيوبيا والصومال هي أن كل واحدة من هذه الدول أصبحت بيئة خصبة لتصدير الأزمات أو استيرادها الحدود المتداخلة، والتاريخ المشترك من النزاعات، وانعدام التنسيق الأمني والسياسي بين الحكومات، يجعل كل تصعيد في إحدى هذه الدول قابلًا للتمدد في الأخرى النزوح الجماعي من السودان يتدفق نحو إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان، ما يشكل عبئًا إضافيًا على دول غير مستقرة أصلًا التوترات العرقية في إثيوبيا تمتد عبر حدودها إلى كينيا وإريتريا والأزمة الصومالية، من حيث ضعف الدولة المركزية، تقدم نموذجًا مقلقًا لدول أخرى تسير نحو التفكك.
القوى الإقليمية والدولية تراقب هذا السباق نحو الهاوية وتتعامل معه بمنطق مصلحي بحت فبينما تدعم بعض الدول أطرافًا بعينها في السودان أو إثيوبيا، تتنافس أخرى على النفوذ في الموانئ والسواحل الصومالية التدخلات، رغم اختلاف شعاراتها، تؤدي عمليًا إلى تعزيز الانقسام، وتعطيل أي مسار جماعي نحو الحل وفي ظل غياب آليات إقليمية فعالة للوساطة أو الاحتواء، تتحول كل أزمة محلية إلى عقدة دولية، وتُختزل السيادة الوطنية إلى أوراق تفاوض بيد الخارج.
الواقع البيئي يزيد من هشاشة المشهد، حيث تتعرض الدول الثلاث لموجات جفاف شديدة، وانعدام أمن غذائي، وندرة في الموارد الأساسية، ما يدفع بملايين السكان إلى الهجرة والنزوح والاقتتال على ما تبقى من ماء أو أرض بين الرصاص والجفاف، بين التحالفات المتقلبة والحدود المنهكة، يسير السودان وإثيوبيا والصومال في سباق غير متوازن، تحكمه الفوضى أكثر مما تحكمه الرؤية، ويقوده الصراع أكثر مما يقوده الأمل.
في نهاية هذا الممر الطويل من الأزمات، لا يبدو أن أحدًا يمتلك خريطة طريق واضحة كل طرف ينظر إلى نجاته بمعزل عن الآخر، وكل حكومة تخوض معاركها على أكثر من جبهة، في حين يغيب المشروع الإقليمي المشترك، وتتراجع فرص التكامل، وتخفت أصوات الحلول السياسية لصالح ضجيج البنادق في هذا السباق المحموم نحو المجهول، تبقى الشعوب هي الضحية الكبرى، وتبقى الأوطان رهائن لصراعات لا تعرف سقفًا، ولا تملك بوصلات واضحة للخروج.