صاحب سر النبي ﷺ وكنز القرآن.. عبد الله بن مسعود سيرة خالدة

يظل عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، علامة بارزة في تاريخ الإسلام، وصاحب مكانة خاصة عند النبي محمد ﷺ الذي جعله موضع ثقته وقربه؛وكان أول من جهر بالقرآن في مكة متحديًا سادة قريش، وأضحى في المدينة صاحب سر النبي ورفيقه الأقرب، ثم معلم الأمة وكنزها القرآني في الكوفة؛ سيرة حافلة بالشجاعة والعلم والصدق، تجعل من ابن مسعود نموذجًا خالدًا تتوارثه الأجيال.
نسبه
هو الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛وأمه هي الصحابية الجليلة أم عَبد بنت عَبد ود بن سوَاء بْن قريم بْن صاهلة بْن كَاهِل بْن الْحَارِث بْن تَمِيم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛ولديه من الأخوة اثنان وهما عتبة وعميس ابني مسعود.
لم يكن عبد الله بن مسعود الهذلي مجرّد صحابي عابر في سجل السيرة النبوية، بل كان رمزًا للإيمان الراسخ والعلم العميق وخدمة القرآن؛و نشأ في مكة المكرمة، حيث استقر والده مسعود بن غافل قبل الإسلام، وكان والده من فرسان هذيل، حتى ارتبط عبد الله بحلفٍ مع بني زهرة وتزوج من نسلهم، ليجد نفسه في قلب مكة، وفي قلب التاريخ.
بداية الطريق نحو الإسلام
كان ابن مسعود يرعى الغنم عندما التقى لأول مرة بالنبي محمد ﷺ وصاحبه أبي بكر الصديق. يروي ابن مسعود بنفسه أنه حين طلب منه النبي لبنًا قال: «إني مؤتمن» فأعجبه صدقه وأمانته.؛ثم مسح النبي ضرع شاة لم يمسها الفحل، فدرّت لبنًا، وشرب هو وأبو بكر؛من هنا بدأ الانعطاف في حياة الفتى النحيل، حيث طلب أن يتعلم من النبي، فمسح رأسه وقال له: «إنك غلام معلَّم»؛ومنذ تلك اللحظة أصبح عبد الله بن مسعود من السابقين الأولين، بل ويقال إنه كان سادس ستة دخلوا الإسلام.
شجاعتة في وجه قريش
لم يكن إسلامه مجرد انتماء صامت، بل كان إعلانًا جريئًا. فقد كان أول من جهر بالقرآن في مكة بعد النبي ﷺ، متحديًا سادة قريش الذين انهالوا عليه بالضرب، لكنه خرج شامخًا بإيمانه. عاش كل ما عاشه المسلمون الأوائل من اضطهاد واضطر للهجرة إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، قبل أن يهاجر مجددًا إلى المدينة حيث بدأ فصل جديد من حياته.
قرب استثنائي من النبي
في المدينة، أصبح ابن مسعود أقرب الناس إلى النبي، حتى كان يُلقب بـ"صاحب سر النبي". كان يحمل نعليه، وسواكه، ووسادته، ويوقظه إذا نام، ويستر عليه إذا اغتسل. لشدّة قربه منه، ظنّ بعض الصحابة أنه من أهل بيت النبي لكثرة دخوله وخروجه عليه؛هذا القرب منحه شرفًا عظيمًا، وثقةً نادرة، حتى قال النبي ﷺ: «لو كنت مؤمّرًا أحدًا عن غير مشورة، لأمرت عليهم ابن أم عبد».
في ميادين القتال
لم يكن ابن مسعود رجل علم وقرآن فحسب، بل كان فارسًا مقدامًا في المعارك. شهد بدرًا، وكان هو من أجهز على أبي جهل بعد أن ضربه ابنا عفراء، وأعطاه النبي سيف أبي جهل مكافأة له. وفي أُحد، كان من الثابتين الأربعة حول النبي بعدما تراجع كثير من الصحابة.
صوت القرآن ومرجعية الفقه
ارتبط اسم ابن مسعود بالقرآن الكريم. فقد أخذ من فم النبي مباشرة أكثر من سبعين سورة، وكان حسن الصوت في تلاوته، حتى قال له النبي يومًا: «اقرأ عليّ»، فلما قرأ سورة النساء بكى النبي عند قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾. وقال النبي ﷺ: «من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد»؛وقد خلّد أثره في مدارس القراءة القرآنية، إذ تنتهي إليه أسانيد كبار القرّاء مثل عاصم والكسائي وحمزة.
ابن مسعود في الكوفة
حين فتحت بلاد الشام شارك في معركة اليرموك، ثم ولاه عمر بن الخطاب مهمة التعليم في الكوفة، وقال لأهلها: «إني بعثت عمارًا أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا». وهناك صار قبلةً للطلاب والعلماء، وأسس مدرسة علمية في التفسير والفقه والقرآن، حتى قال حذيفة بن اليمان: «ما أعلم أحدًا أقرب سمتًا وهديًا من رسول الله ﷺ من ابن أم عبد».
مكانته بين الصحابة والتابعين
كان محل تقدير الصحابة الكبار؛ فعمر بن الخطاب وصفه بأنه «كُنيف ملئ علمًا». وأثنى عليه أبو الدرداء عند وفاته قائلًا: «ما ترك بعده مثله». أما التابعون فكانوا يرونه المرجع الأول في القرآن، وقال مسروق: «شاممت أصحاب محمد، فوجدت علمهم انتهى إلى ستة… ثم وجدته انتهى إلى علي وعبد الله».
خاتمة المسيرة
عاش ابن مسعود حياةً مليئة بالعلم والجهاد، وظل قريبًا من القرآن حتى آخر لحظاته. ورغم الخلافات التي نشأت في عهده بشأن جمع المصاحف، بقي أثره خالدًا في وجدان الأمة، وخلّف مدرسة قرآنية فريدة؛وظل عبد الله بن مسعود رمزًا للصدق والجرأة والعلم، الفتى النحيل الذي غيّر مسار حياته بلحظة صدق مع النبي، ليصبح أحد أعظم أعمدة الإسلام وحملة القرآن في التاريخ.