عاجل

بعد فتوى صناعة التماثيل التذكارية في الميادين حرام.. الإفتاء تحسم الجدل

صناعة التماثيل
صناعة التماثيل

أثار الدكتور يسري جبر، من علماء الأزهر الشريف، أن صناعة التماثيل التي يقوم بها بعض الفنانين التشكيليين وتوضع في الميادين العامة، وإن كانت تهدف إلى تخليد ذكرى العظماء، فإنها تظل حرامًا، لكنها تعد من الصغائر وليست من الكبائر، الجدل عبر صفحات التواصل الاجتماعي.

صناعة التماثيل من الصغائر

«جبر» أكد أنها لا تُنشأ بغرض أن تُعبد أو يُسجد لها، وإنما لتكريم شخصيات تاريخية أو رموز عامة، غير أن حكمها الشرعي يظل في دائرة التحريم، مبينًا خلال حلقة برنامج "أعرف نبيك"، المذاع على قناة الناس، اليوم الجمعة، أن أحكام الصور والتماثيل في الفقه الإسلامي تتراوح بين الإباحة والكراهة والحرمة، فالصورة الفوتوغرافية تدخل في باب الإباحة، أما الصورة المرسومة باليد فهي في حكم الكراهة، بينما التماثيل التذكارية تدخل في باب الحرام لكنها من الصغائر، في حين أن التماثيل التي تُعبد من دون الله تعد من الكبائر.

وأكد أن علة النهي عن التصوير والتماثيل بهذه الصورة ترجع إلى كونها تشبهًا بقدرة الله سبحانه وتعالى، الذي تفرد بصفات الخلق والتصوير والإيجاد، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته ولا أبالي». وأضاف أن المصور أو الصانع يشارك بفعله في منازعة صفات لا يليق إلا بالله أن ينفرد بها، مشيرًا إلى أن الأحاديث التي ورد فيها لفظ "خالدا فيها" لا تعني بالضرورة الخلود الأبدي، بل قد يقصد بها طول الإقامة، مثل حال قاتل النفس، الذي إن استحل القتل فهو كافر يُخلد في النار، أما إذا كان مؤمنًا عاصيًا فإيمانه يمنع خلوده ويُعذّب فترة ثم يخرج بالشفاعة.

وأكد الدكتور يسري جبر، على أن الخروج من مواطن الخلاف مستحب، وأن الاستبراء للدين والأمانة هو الأفضل دائمًا، داعيًا الله سبحانه وتعالى أن يفقه المسلمين في أمور دينهم ودنياهم، وأن يرزقهم الحكمة والبصيرة في التعامل مع هذه القضايا.

أقوال العلماء في حكم صناعة التماثيل واقتنائها وبيعها

دار الإفتاء أشارت في حكم صناعة التماثيل إلى ما جاء في "لسان العرب" لجمال الدين ابن منظور: [التمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله، وجمعه، التماثيل، وأصله من مَثَّلْت الشيء بالشيء إذا قدرته على قدره].

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تنصُّ في ظاهرها على حرمة صناعة التماثيل واتخاذها؛ منها ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي الهَيَّاج الأَسَدِيِّ قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» وذهب إلى هذا الرأي كثيرٌ من أهل العلم فرأوا تحريم التماثيل؛ صناعةً واستعمالًا واتخاذًا وبيعًا وشراءً؛ وقد استدلّوا لما ذهبوا إليه كذلك بأنَّ الأمرَ بطمسها يتنافى مع اتخاذها واستبقائها، وأنه قد وردت روايات أخرى بهذا المعنى.

الحكم بحرمة صناعة التماثيل ليس عامًا

وبينت أن من الفقهاء من يرى أنَّ الحكم بحرمتها ليس عامًّا، وإنما هو خاصٌّ بما هو على هيئةٍ كاملةٍ من ذوات الأرواح، وقد استدلوا لذلك بما رواه البخاري عن سعيد بن أبي الحسن قـال: "كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ أتاه رجل فقـال: إني إنسانٌ، إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سمعته يقول: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا، فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ»"؛ فرأوا أنَّ هذا الحديث يُخَصّص العمُومَ الوارد في بعض الأحاديث بحرمة جميع التماثيل ليحمل الحكم على ما لم يكن من ذوات الأرواح.

واستدلُّوا كذلك بنص آخر هو ما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي الْبَيْتِ يُقْطَعُ فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ»، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا عند البيهقي وغيره: «الصُّورَةُ الرَّأْسُ؛ فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَليسَ بِصُورَةٍ»؛ فرأوا أنه مما يُخَصِّص العموم الوارد في بعض الأحاديث، ليُحْمَل الحكم على الوارد فيها بالحرمة على ما كان تمثالًا كاملًا لشيء من ذوات الأرواح، أما ما كان على غيرها، أو كان لها إلَّا أنَّه غير مكتمل فأجازوه؛ قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني": [إذا كان في ابتداء التصوير صورة بدنٍ بلا رأس، أو رأس بلا بدن، أو جُعِلَ له رأسٌ وسائر بدنه صورة غير حيوان، لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان.

وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار": [(قوله: أو ممحوة عضو.. إلخ) تعميمٌ بعد تخصيص، وهل مثل ذلك ما لو كانت مثقوبة البطن مثلًا؟ والظاهر أنَّه لو كان الثقب كبيرًا يظهر به نقصها فنعم وإلا فلا.. (قوله: لأنها لا تعبد)؛ أي: هذه المذكورات، وحينئذٍ فلا يحصل التشبه].

وذهب فقهاءُ الشَّافِعيَّةِ في قولٍ، وهو ما ذهب إليه كذلك الشيخ الإمام محمد عبده، أنَّ الحكم عام يُخَصَّص بالتعليل الوارد في النصّ، فيكون الحكم بالحرمة إنما هو خاص بما كان عزمُ صانعه على أن يُضَاهِي بما يصنعه خلق الله تعالى، أو اتُّخذت للعبادة ونحوها ممَّا لا شكَّ في حرمته، فرأوا أنَّ التعليل الوارد في خصوص هذه المسألة إنما يُخَصِّصُ الحكم بها ولا يُبطل النصوص السابقة وغيرها ممَّا هو في معناها؛ لأنه يجوز استنباط معنى من النصّ يخصّصه، ولا يجوز استنباط معنى من النصّ يَكِرُّ عليه بالإبطال؛ قال العلامة تاج الدين السبكي في "الأشباه والنظائر" (1/ 154، ط. دار الكتب العلمية): [وفي استنباط معنى يُخَصِّصُ قولان.. وكذلك قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [النساء: 43] مَن اعتبر تَجرُّدَ اللفظ نقض الوضوء بمجرد لمس المحارم، ومَن نظر إلى المعنى خصَّصهن].

وقال الشيخ الإمام محمد عبده رحمه الله فيما نقله عنه الشيخ رشيد رضا في "مجلة المنار" بعد أن ساق الأحاديث المتعلقة بالتصوير والتماثيل: [إنَّ الوعيدَ على تحريم التصوير خاص بمن كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، والتحقيق أنَّ الأصلَ في الوعيد على التصوير قسمان: أحدهما: لا يتحقق إلا بالقصد، وهو مضاهاة خلق الله. وثانيهما: لا يُشترط فيه قصد علة الحصر، وهو كما يُؤخَذُ من حديث كنيسة الحبشة، وممَّا صرح به المحققون من المتقدمين والمتأخرين في شرحه وشرح غيره، وهو سد ذريعة عبادة صور الأنبياء والصالحين وغيرهم.. إنَّ سد الذرائع يختلف باختلاف الأزمنة وباختلاف أنواع الصور، ولما كانت التماثيل والصور المعظمة في الجاهلية تعظيم العبادة هي صور ذات الأنفس أذن ابن عباس رضي الله عنه للمُصَوِّر الذي استفتاه بتصوير الشجر وما لا نفس له، ولما صارت صور ذات الأنفس لمجرد الزينة، وزالت مظنة العبادة اتَّخذ بعض أئمة السلف بعض الصور في بيوتهم، كما ترك الصحابة الصور في إيوان كسرى] اهـ.

تم نسخ الرابط