عاجل

أزمة الديمقراطية الغربية: دراسة مفاهيمية في تشابك المصطلحات

تعبيرية
تعبيرية

ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الديمقراطية منذ نشأتها لأزمات أو انتكاسات أو إخفاقات، سواء في البلدان الغربية أو في دول الجنوب. ويتطلب تناول هذا الموضوع تناولا علميا إرساء مجموعة من المبادئ أو القواعد، تمهد لدراسته من زاوية المفاهيم.

 

ووفقًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أولا، التفرقة بين الفكر السياسي والنظرية السياسية: إن حقل الفكر السياسي هو ذلك المجال الذي يدرس تتابع الأفكار السياسية من إحدى زاويتين أو من كلتاهما معا. فمن ناحية، نلقى التحليل الجيني، الذي يركز على توالد الأفكار عن بعضها البعض، سواء أخذ هذا التتابع شكل التطور الخطي الصاعد أو التكرار الدائري أو الانقطاعات والقفزات الفكرية. ومن ناحية أخرى، هناك التحليل البيئي، الذي يسلط الضوء على العلاقة بين السياق الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي وعملية إنتاج الأفكار في حقبة زمنية معينة، سواء اتفقت هذه الأفكار مع عناصر هذا السياق أو تمردت عليها.

 

 أما النظرية السياسية فهي الحقل المركزي في علم السياسة، الذي يضبط بوصلته، من خلال تركيزه على الاقترابات والمفاهيم والاصطلاحات، التي يستخدمها الدارسون في مختلف فروع هذا العلم. بعبارة أخرى، فالنظرية السياسية هي المجال الذي يدرس الطريقة التي يدرك بها الباحث الظاهرة السياسية، وكيفية صياغته لهذه المدركات في صورة مفاهيم، بما يجعل الظاهرة السياسية تقبل الدراسة العلمية، وصفا وتحليلا وتفسيرا وتنبؤا وتقويما.

 

ثانيا، التفرقة بين المفهوم والرمز: إن المفهوم عبارة عن تكوين نظري مستمد من الواقع أو من خارجه يستخدمه الباحث لوصف ظاهرة ما في هذا الواقع وتحليلها وتفسيرها والتنبؤ بها وتقويمها، أما الرمز فهو تكوين نظري يرتبط بالأساس بخبرة معينة -في مكان وزمان معينين- بمعنى أنه يلخصها ويعبر عنها فيشتبك بالواقع على مستوى الممارسة ويصبح أحد العناصر المكونة له. وفي حين يفترض المفهوم كوحدة تحليلية وجود الواقع السياسي وعناصره وجودا موضوعيا، بغض النظر عن وجود وإدراك الذات العارفة للواقع، فإن الرمز يقوم بوظيفة بنائية (Evocative Function)، من حيث بنائه للواقع السياسي أو تغييره أو تدميره للواقع السياسي. وبينما تتضافر المفاهيم لتكوين عمارة مفاهيمية هي انعكاس للواقع القائم، تتضافر الرموز لبناء أو هدم ما يسمى بالكوزميون (Cosmion)، بمعنى العالم السياسي المصغر، الذي يشترك مع ميكانيزمات العنف في بناء الواقع السياسي.

 

ويستخلص من الوجود النظري للرموز والمفاهيم أن الوجود السياسي يتكون من مجموعة ثابتة من العناصر لها وجود موضوعي خارج عن الذات، ومجموعة أخرى من العناصر هي من خلق الذوات العارفة في تفاعلها مع بعضها البعض. افترض أن هناك مجموعة من الأفراد يتواجدون في مكان معين لفترة معينة من الزمن، فإن هناك مجموعة من الكلمات بمجرد إطلاقها وسماع الأفراد لها ستجعلهم يأخذون هيئة تشكيلات إجتماعية متباينة، في كل منها ظواهر وأنماط للسلوك خاصة بكل منها. من تلك الكلمات مثلا، الصلاة أو الاحتفال أو الاستراحة أو الاختبار أو المداولة أو المحاضرة أو المؤتمر إلخ…

 

ثالثا، اقتراب النظرية السياسية من موضوع تعثر أو أزمة الديمقراطية: لا يتناول هذا الاقتراب الظاهرة محل الدراسة على مستوى الممارسة، من حيث التطور التاريخي للنظم الديمقراطية أو الأزمات البنيوية للنظم الديمقراطية أو عملية التحول الديمقراطي أو انهيار النظم الديمقراطية، فهذه كلها قضايا وإشكالات ترتبط بحقل النظم السياسية المقارنة. وليس للنظرية السياسية الخوض فيها على هذا المستوى، وإنما يضعها هذا الحقل -استنادا إلى التعريف المبين سلفا- على مستوى النظر، فينصب تركيزه على الاصطلاحات والمفاهيم التي يستخدمها دارسو النظم السياسية المقارنة، وبالأخص النظم الديمقراطية، لتناول مسألة تعثر الديمقراطية. وتتمثل أهمية هذا الاقتراب في أن كل مفهوم أو اصطلاح يستبطن رؤية معينة للظاهرة محل الدراسة، ستفرض نفسها على تحليل الدارسين لها، بمجرد استخدامهم لهذا المفهوم أو ذاك في تحليلهم. وعناصر الرؤية المستبطنة في أي اصطلاح أو مفهوم يستخدم لدراسة الموضوع في حالتنا هي: 1) تصور طبيعة النظام الديمقراطي ونشأته. 2) تشخيص الأزمة أو المأزق الحالي الذي يتعرض له النظام الديمقراطي. 3) تعيين المآل الذي ستنتهي إليه هذه الأزمة مستقبلا.

 

رابعا، الاصطلاحات التي تعبر عن الواقع المأزوم للنظم الديمقراطية: وجدت اصطلاحات أو مفاهيم عدة تسبق في وجودها الأزمة الحالية للنظم الديمقراطية، التي ارتبطت بصعود التيارات اليمينية والقوى الشعبوية، وفوزها في الانتخابات، ووصول أبرز شخصياتها إلى مقاعد السلطة في العديد من البلدان الغربية. فهذه المفاهيم أوسع بكثير من لحظة الأزمة الحالية، من حيث الزمان والمكان والثقافة، ولكن لن تطرحها الورقة الحالية من حيث الترتيب التاريخي لها. ومن هذه الاصطلاحات:

 

1) Reverse wave: الموجة العكسية.

 

2) Democratic Backsliding: التراجع الديمقراطي.

 

3) Autocratization: التحول الأوتوقراطي.

 

4) Hybrid Regimes: الأنظمة الهجينة.

 

5) Competitive Authoritarianism: السلطوية التنافسية.

 

6) Liberalized Autocracies: الأوتوقراطيات الليبرالية.

 

وستتم هنا مناقشة الاصطلاحات الثلاثة الأولى فقط، ولكن قبل الخوض فيها لابد من إيراد ملاحظة هامة، ألا وهي أن هذه الاصطلاحات تنطلق في أغلبها من خبرة سياسية مغايرة، ليست لها علاقة بواقعنا السياسي، ومع ذلك تظل مهمة الباحث السياسي لدينا تأصيل هذه المفاهيم من الناحيتين اللغوية والمعرفية، فيستوعب هذه المفاهيم ويسحبها إلى قاعدته المعرفية، ولا يجعلها تستوعبه وتستدرجه إلى قاعدة معرفية أخرى. وأول خطوة على هذا الدرب هي عدم استخدام هذه الاصطلاحات بلغتها الأصلية، وإنما نحت ترجمات عربية لها، فإن التخلي عن اللغة والهوية القوميتين بزعم التمكن من دراسة تلك الظواهر لا يعبر عن أي رقي أو تميز معرفي، بل هو علامة واضحة على ضعف القدرات الفكرية واللغوية للباحث، فضلا عن إصابته بالعقد الحضارية والنفسية والطبقية أيضا.

 

الموجة العكسية

كتب عالم السياسي الأمريكي الشهير صمويل هنتنجتون مقالا بعنوان "الموجة الثالثة للديمقراطية"، نُشر في ربيع عام 1991 في مجلة الديمقراطية، واحتوى المقال على المادة التي ستستخدم بعد ذلك في كتابه "الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين". وفي هذا المقال، يرد اصطلاح الموجة العكسية للتحول الديمقراطي، وسنعمد هنا إلى استجلاء هذا المفهوم وموضعته في سياق التصور الشاملة للتحول الديمقراطي،  المفهوم المركزي عند هنتنجتون. ويبدأ هذا التصور بسؤال هنتنجتون عن كنه التحول الديمقراطي، فهل هو جزء متواصل ويزداد اتساعا لما يمكن تسميته "الثورة الديمقراطية العالمية" التي ستحمل الديمقراطية إلى أرجاء الأرض؟ أم هو توسع محدود للديمقراطية وإدخالها مرة أخرى في بلدان عرفتها من قبل في الماضي؟ وإن شئنا منح شقي السؤال شكلا مرئيا، لقلنا هل يأخذ التحول الديمقراطي شكل الخط الصاعد أم هو عبارة عن خط مموج يتضمن موجات صاعدة تليها موجات هابطة وهكذا؟

 

وإجابة على ذلك، يرصد هنتنجتون ثلاث موجات للتحول الديمقراطي منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى عام 1991 (وقت كتابة مقاله)،  وبعد صعود كل موجة منها إلى القمة تأخذ في الهبوط حتى تصل إلى القاع؛ بعبارة أخرى يعقب كل موجة صاعدة للتحول الديمقراطي موجة هابطة أو عكسية، بحسب تسمية هنتنجتون لها. ويثير ما سبق سؤالا عنده عن كنه اللحظة الحاضرة وقتذاك، أهي بداية أو مقدمة لموجة عكسية ثالثة على غرار الموجتين العكسيتين السالفتين، ومن ثم ستطيح بكافة المكتسبات الديمقراطية للموجة الثالثة للتحول الديمقراطي؟ وينعي هنتنجتون على العلوم الاجتماعية والمشتغلين بها عدم قدرتهم على تقديم إجابة على سؤاله السابق.

 

في هذا السياق، يرى هنتنجتون أن الموجة العكسية ليست مجرد تراجع بسيط  (Backsliding)للديمقراطية، بل هي موجة عكسية كبرى ستتحول فيها معظم الأنظمة في العالم من الديمقراطية إلى السلطوية. وقياسا على الموجتين العكسيتين السابقتين، سيحاول هنتنجتون التعرف على العوامل التي ستنتج الموجة العكسية الثالثة والشكل الذي ستأخذه وطبيعة النظم السياسية الناتجة عنها. فبالنسبة للعوامل التي أنتجت الموجتين العكسيتين السالفتين، يرى هنتنجتون أنها تتمثل في: ضعف القيم الديمقراطية لدى النخبة والجماهير؛ والاخفاقات الاقتصادية التي جعلت الحلول السلطوية تتمتع بالشعبية؛ والاستقطاب السياسي والاجتماعي في ظل النظم الديمقراطية؛ ووجود إقصاء لبعض القوى السياسي وانهيار للقانون والنظام في ظل الديمقراطية؛ وحدوث تدخل أو غزو من قبل قوة أجنبية غير ديمقراطية؛ والمحاكاة لما حدث في بلد مجاور من العودة إلى السلطوية. أما الشكل الذي أخذته هاتان الموجتان العكسيتان فيتسم بالفجائية والعنف، حيث حدث التحول فيهما عن طريق الانقلابات العسكرية أو الانقلابات من أعلى تقودها السلطة التنفيذية. وقد أخذت النظم التي حلت محل النظم الديمقراطية في أعقاب الموجتين العكسيتين أشكالا جديدة من الحكم السلطوي، مثل الحكم الشمولي الفاشي في إيطاليا أو الحكم النازي في ألمانيا أو السلطوية البيروقراطية في أمريكا اللاتينية.

 

أما الموجة العكسية الثالثة، فيرى هنتنجتون أن هناك أسبابا محتملة لها، منها: انهيار شرعية النظم الديمقراطية بسبب عجزها وعدم فعاليتها في تحقيق أهدافها، كالرفاه أو العدالة أو النظام في الداخل أو الأمن من الخارج؛ وتأثير كرة الثلج العكسية، بمعنى أن التحول إلى السلطوية في بلد ما يرسل رسالة مبطنة إلى الطغاة المحتملين في البلدان المجاورة "أنتم أيضا يمكنكم العودة إلى وظائفكم". ويشدد هنتنجتون على أن توسع أو زيادة قوة الدولة غير الديمقراطية سيستثير الحركات السلطوية في البلدان الأخرى، وستزداد قوة هذا المثير إذا هزمت الدولة غير الديمقراطية واحدة أو أكثر من الدول الديمقراطية. أما آخر الأسباب وأهمها فهي ظهور أشكال قديمة أو حديثة من السلطوية يمكنها الاستجابة لاحتياجات اللحظة الحاضرة في أحد البلدان. ومن الأشكال القديمة للسلطوية القومية السلطوية والأصولية الدينية والسلطوية الأوليجاركية والديكتاتوريات الشعبوية والديكتاتوريات الجماعية، أما الشكل المستقبلي للسلطوية فيطلق عليه هنتنجتون "الديكتاتورية الإلكترونية التكنوقراطية"، وفيها ينشأ الحكم السلطوي ويزدهر ويصير شرعيا بسبب قدرة النظام على التلاعب بالمعلومات ووسائل الإعلام والاتصال. 

 

التراجع الديمقراطي

يمكن تعريف التراجع الديمقراطي على أنه عملية تدريجية تقوم من خلالها السلطة التنفيذية التي تزداد سيطرتها بتفكيك الضوابط والتوازنات القائمة داخل النظام الديمقراطي، أو أنها عملية تقوم بها الدولة لإضعاف وتحطيم النظام الديمقراطي. أما الاختلاف بين التراجع الديمقراطي والموجة العكسية، فهو أن الأخيرة تتسم بأنها كاسحة وفجائية وعنيفة، تأخذ صورة الانقلاب العسكري أو الانقلاب من أعلى كما سلف ذكره، أما التراجع الديمقراطي فيأخذ أشكالا أكثر دقة ومكرا، حيث أن الحكومة المنتخبة ذاتها هي التي تقوض تدريجيا الضمانات الديمقراطية التي تحد من سلطتها، إلى أن تتخلص منها بالكلية.

 

والمقصد من مفهوم التراجع الديمقراطي واستخدامه في الأدبيات هو تبني اقتراب أكثر إيضاحا للاختلافات الدقيقة بين ظواهر شديدة التنوع، رغم تشابهها الظاهري، وعدم حشرها جميعا تحت فئة واحدة أو صنف واحد. ويقدم هذا المفهوم رؤية عامة وشاملة لديناميات التحول الديمقراطي وعكسه أي التحول في الاتجاه المضاد للديمقراطية. ووفقا لدراسات الحالة المختلفة فلا يوجد نموذج أو نمط واحد لعملية التراجع الديمقراطي، بل إنه يأخذ مسارات متعددة بحسب نوع ودرجة التآكل، التي تحدث خلال عملية تفكيك الضمانات الديمقراطية. وبعبارة أخرى، فإن عملية التراجع الديمقراطي عملية متعددة الأبعاد ومن ثم المسارات.

 

وفي إحدى الدراسات التي أجريت عام 2022 على عملية التراجع الديمقراطي، في الدول التي شهدت تحولا ديمقراطيا فيما سمى بالموجة الثالثة للتحول الديمقراطي، فإن أنماط التراجع الديمقراطي في تلك الدول تحددت في تلك الدراسة بحسب نوعية وترتيب الضمانات الديمقراطية، التي يقوضها الحاكم أو الزعيم المنتخب. وأولى هذه الضمانات هي الضمانات الرأسية التي تتعلق بالعملية الانتخابية النزيهة الشفافة باعتبارها جوهر النظام الديمقراطي، لأنها تضمن التداول السلمي للسلطة، غاية النظام الديمقراطي بالأساس. ويتم تقويض هذا النوع من الضمانات عن طريق تخفيض موارد وميزانيات المؤسسات المنتخبة وكذلك التلاعب بالعملية الانتخابية أو تزويرها. أما ثاني هذه الضمانات فهي الضمانات القطرية التي تتعلق بقدرة المواطنين على تحدي ومعارضة القادة أو القرارات التي يتخذونها، بما يضمن الطبيعة التنافسية للنظام الديمقراطي. ويتم تقويض تلك الضمانات من خلال تقليص أو تعطيل ميكانيزمات المنافسة في النظام، مثل حرية التعبير والإعلام والتجمع والتنظيم وغير ذلك من الحريات السياسية والمدنية. وثالث هذه الضمانات هي الضمانات الأفقية التي تتعلق بالقيود المؤسسية، التي تفرض على تصرفات السلطة التنفيذية، وهو ما يجعلها خاضعة للرقابة بشكل دائم. ويحدث تقويضها من خلال إضعاف الآليات التي تضمن للمواطنين السيطرة الفعالة على المؤسسات السياسية، مثل البرلمان القوي الحر والسلطة القضائية النزيهة المستقلة.

 

وبحسب نفس هذه الدراسة، فقد أظهرت الحالات موضع البحث أربعة أنماط أو أشكال للتراجع الديمقراطي: 1) الارتدادات الديمقراطية  (Democratic Reversals)فبعد حدوث تطورات إيجابية في السنوات المبكرة للانتقال للديمقراطية، يشهد النظام تراجعا حادا وتدريجيا في بعض الحالات على مستوى الضمانات الثلاثة بما يقود إلى انهيار العملية الانتخابية، قلب النظام الديمقراطي؛ 2) التراجع على مستوى الضمانات القطرية (Backsliding on Diagonal Safeguards)  إذ يشهد النظام حدوث تراجع كبير لحرية الإعلام والمشاركة المدنية، فتتآكل الطبيعة التنافسية للنظام، مما يهدد بحدوث تراجع شامل على المستويين الأفقي والرأسي؛ 3) التراجع الجزئي مع صمود الضمانات الأفقية (Partial Backsliding with Resilient Horizontal Safeguards)  يشهد هذا النمط تراجعا للضمانات الرأسية فيحدث انخفاض في مستوى المشاركة السياسية مصحوبا باختلالات بنيوية في العملية الانتخابية، ويصاحب ذلك تراجعا في الضمانات القطرية المتعلقة بالحريات، التي تضمن تنافسية النظام وتحدي ومعارضة القادة السياسيين، لكن القيود المؤسسية على المستوى الأفقي تصمد أمام تلك التراجعات، وتحتفظ بدرجة عالية من الإستقرار رغم ما يحدث؛ 4) الديمقراطيات التي تتعرض للهجوم (Democracies under Attack) وأبرز معالم هذا النمط هو التدهور الشامل والسريع في بعض الحالات عبر الأبعاد الثلاثة، فبعد الأداء العالي لفترة طويلة يبدأ هناك تراجع سريع وشامل للطابع الديمقراطي فيها.

 

التحول الأوتوقراطي  (Autocratization)

إن التحول الأوتوقراطي من حيث المعنى هو نقيض التحول الديمقراطي، فهو عبارة عن أي تحرك بعيد عن الديمقراطية الكاملة، ويعتبر هذا المفهوم مفهوما شاملا ذلك لأنه يتسع ليشمل الانهيار المفاجئ للديمقراطية، فضلا عن الانحسار التدريجي للسمات الديمقراطية، سواء في النظم الديمقراطية أو النظم غير الديمقراطية، بما يجعلها أقل ديمقراطية أو أكثر أوتوقراطية. بعبارة أخرى، فالتحول الأوتوقراطي هو عبارة عن عمليات انحسار الديمقراطية بما يؤدي إلى تحول النظام الديمقراطي إلى نظام أوتوقراطي أو إلى توطيد دعائم النظام الأوتوقراطي القائم من الأصل. وبناء على ذلك، يسهل التعرف على الانهيار الدراماتيكي للنظام الديمقراطي في إطار الموجة العكسية، لأنه يأخذ شكل أحداث يسهل نسبيا التعرف عليها إمبيريقيا كالانقلابات العسكرية أو الدستورية. ويُمكِّن مفهوم التحول الأوتوقراطي أيضا من التعرف على التآكل التدريجي لسمات أو معالم النظام الديمقراطي، التي لا يسهل التعرف عليها لأنها تتم مع وجود غطاء قانوني لها. ومن ناحية اختلافه عن مفهوم الموجة العكسية فهو أوسع نطاقا لأنه يشمل الانهيار المفاجئ الظاهر للعيان والانحسار التدريجي الخفي للديمقراطية، ومن ناحية اختلافه عن مفهوم التراجع الديمقراطي فهو يشمل الابتعاد عن الديمقراطية سواء داخل النظم الديمقراطية أو غير الديمقراطية على حد سواء.

 

وهناك إشكاليتان عمليتان أفرزتا هذا الاصطلاح، أما أولاهما فهي فقدان أنظمة التعددية الحزبية لمعناها في الممارسة العملية لأن تآكل القيم الديمقراطية يحدث وراء الواجهة القانونية للنظام الديمقراطية، ومن ثم دعت الحاجة إلى استحداث مفاهيم وأدوات إمبيريقية ملائمة، يمكنها ملاحظة وتحليل هذه العمليات المعتمة تحليلا علميا، فهي ظواهر تحدث تحت مستوى الرادار المفاهيمي والمنهاجي القائم. أما الإشكالية الثانية فهي اختلاف الدارسين في تقييمهم للتحولات الحادثة في الوضع القائم، فبينما يميل البعض إلى الاستشهاد بالسوابق التاريخية كانهيار الديمقراطيات في ثلاثينات القرن العشرين أو صعود النظم الشعبوية المعادية للديمقراطية في أربعينيات ذلك القرن، نجد البعض الآخر يؤكد أن العالم حاليا ما يزال ديمقراطيا ومتحررا، بل ربما أكثر من حاله خلال القرن العشرين.

 

وتشير الأدبيات إلى أن الأساليب التي يتخذها التحول الأوتوقراطي ليست جلية للعيان كالانقلابات العسكرية أو التزوير واسع النطاق في الانتخابات، بل هي أساليب أقل وضوحا، مثل: التضييق على المعارضة؛ والالتفاف على آليات المحاسبة أو تخريبها؛ وتشويه الحرية الإعلامية؛ والتضييق على منظمات المجتمع المدني؛ وتركيز المزيد من الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية بما يؤدي إلى تضخمها أو عملقتها. وهكذا تغيرت أساليب التحول بعيدا عن الديمقراطية كثيرا عن ذي قبل. ويشير كل هذا إلى أن موجة التحول الأوتوقراطي تنساب بصورة أكثر خفاء وتدرجية من السوابق التاريخية للانهيار الديمقراطي.

 

ولابد من التنبيه على أن مفهوم التحول الأوتوقراطي يتقاطع مع بارادايم النقلة (Transition Paradigm)  الذي يتعلق بالانتقال من حالة إلى الأخرى، فالتحول الأوتوقراطي عملية مفتوحة ومستمرة إلى ما لا نهاية، إذ أن الدراسات تكشف عن ندرة وجود أوتوقراطيات مغلقة. فصيرورة التحول الأوتوقراطي ستنتهي إلى نظام هجين هو الديمقراطية غير الليبرالية (Illiberal Democracy)، لأن القادة الأوتوقراطيين صاروا أكثر حنكة وبراعة، فهم يخربون العملية الانتخابية ليحولوا دون حدوث تداول حقيقي للسلطة، لكنهم في الوقت ذاته يحافظون على الواجهة الديمقراطية. ومن هنا يمكن القول إن آليات التحول الأوتوقراطي وآليات التحول الديمقراطي تتلاقى في أن صيرورتهما تقود إلى نظم هجينة، فلا توجد أوتوقراطية كاملة ولا ديمقراطية كاملة، وإنما حالات لانهائية لنظم هجينة تجمع بين سمات النوعين. ولما كانت الأوتوقراطية المغلقة غير موجودة، يقترب النظام الديمقراطي الذي شهد تحولا أوتوقراطيا  (autocratized)، بمعنى أنه أفرغ من محتواه الديمقراطي الحقيقي مع الحفاظ على الواجهة الديمقراطية، أقول يقترب هذا النظام من تلك النظم الهجينة في العالم الثالث، أي تلك التي تقوم بعملية تحول ديمقراطي لانهائية لا تصل ولن تصل لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي. ويطلق عالم السياسة لاري دايموند على تلك النظم في العالم الثالث السلطوية التنافسية، وفيها توجد درجة محدودة من التنافسية في مساحات هامشية، وتوجد فيها بعض الحريات وحتى الانتخابات المحدودة، ويمارس فيها العنف بشكل انتقائي وليس على نطاق واسع، ولكن لا يوجد فيها أي تداول حقيقي للسلطوي، فهو نظام سلطوي في جوهره.

 

ومن قبيل الحدس الذي يحتاج إلى دراسة أن يكون أحد عوامل التقارب بين الولايات المتحدة تحت حكم اليمين المتطرف ودول الخليج أن كلاهما جزء من موجة تحول أوتوقراطي عالمي، تجعل النظام الديمقراطي الذي شهد تحولا أوتوقراطيا يقترب نوعيا من السلطويات الانتخابية أو التنافسية في العالم الثالث.

 

خاتمة

يستنتج من العرض السابق أن هذه المفاهيم الثلاثة ليست مترادفة ولا قابلة للاستبدال ببعضها، وإنما هي مفاهيم تصف ظواهر متمايزة، لكنها شديدة التقارب، لأنها تدخل في نطاق أزمة الديمقراطية. فالموجة العكسية هي الانهيار السريع للنظام الذي شهد تحولا ديمقراطيا فيرتد إلى سلطويته السابقة، أما التراجع الديمقراطي فهو عبارة عن التآكل التدريجي الخفي للضمانات الديمقراطية داخل النظام الديمقراطي، ولكن التحول الأوتوقراطي هو الابتعاد عن الديمقراطية والاقتراب من الأوتوقراطية، ويحدث في النظم الديمقراطية والسلطوية على حد سواء.               

تم نسخ الرابط