الماء ليس مجرد مورد طبيعي بل هو شريان الحياة الذي يحدد بقاء الأمم ونهوضها وبه تقاس قوة الدول وقدرتها على الاستمرار في وجه التحديات وفي زمن تتعاظم فيه الضغوط السكانية والمناخية والاقتصادية يغدو الأمن المائي ليس خيارا ترفيا بل قضية وجود ومصير ومن هنا تأتي تحركات الدولة المصرية ورؤيتها الاستراتيجية في إدارة الموارد المائية كخط دفاع أول عن حاضر الوطن ومستقبله حيث يتجلى التخطيط العلمي المدعوم بالتكنولوجيا الحديثة والرؤية البعيدة المدى التي تترجم إلى مشروعات قومية عملاقة جعلت من كل قطرة ماء مشروعًا للحياة والتنمية.
واجتماع الرئيس السيسي حول هذا الشأن ليس مجرد متابعة روتينية لمشروعات الري بل يمكن قراءته في سياق أوسع باعتباره انعكاسا لرؤية مصر الاستراتيجية في التعامل مع ملف المياه أحد أكثر الملفات حساسية للأمن القومي فالأرقام تكشف حجم التحدي فمصر تعتمد بنسبة 97% على نهر النيل لتلبية احتياجاتها المائية بينما يتراجع نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 560 متر مكعب سنويا في 2024 وهو أقل بكثير من خط الفقر المائي العالمي المحدد بـ 1000 متر مكعب للفرد وما طرحه الاجتماع حول مشروع الدلتا الجديدة يمثل تحركا نوعيا حيث يستهدف المشروع استصلاح 2.2 مليون فدان غرب الدلتا معتمدا على إعادة استخدام ومعالجة مياه الصرف الزراعي ومحطة الدلتا الجديدة وحدها ستصبح من أضخم محطات المعالجة في العالم بطاقة تفوق 7.5 مليون متر مكعب يوميا مكملة لمحطة بحر البقر التي افتتحت في 2021 وتعد أكبر محطة معالجة ثلاثية في العالم بطاقة 5.6 مليون متر مكعب يوميا فضلا عن محطة المحسمة والتي تعالج مليون متر مكعب يوميا هذه الأرقام توضح أن مصر لم تعد تنظر إلى المياه المعالجة كخيار ثانوي بل كركيزة رئيسية في منظومة الجيل الثاني من الري.
ولعل التحول الرقمي الذي تمت الإشارة إليه يعكس تطورا في أسلوب إدارة المورد المائي فاستخدام الأقمار الصناعية وتقنيات الاستشعار عن بعد لمتابعة المجاري المائية ورصد التعديات خطوة في الاتجاه الصحيح خاصة في ظل خسائر تقدر بالمليارات سنويا بسبب الهدر والتعديات حيث تظهر الأرقام الرسمية أن مشروعات تبطين الترع جزء من مشروع الري الحديث نجحت في تبطين أكثر من 9 آلاف كم حتى 2024 بما يسهم في ترشيد استهلاك نحو 5 مليارات متر مكعب من المياه سنويا عند اكتمال المشروع لكن التحدي الأكبر يظل في الاستهلاك فقطاع الزراعة يستحوذ على أكثر من 80% من إجمالي الموارد المائية ومع تزايد الطلب السكاني أكثر من 108 ملايين نسمة في 2024 يصبح ترشيد الاستهلاك الزراعي ضرورة وجودية لا رفاهية وهنا تأتي أهمية حديث الرئيس عن الإدارة الرشيدة والاستخدام الآمن للمياه الجوفية التي تقدر احتياطياتها العميقة في الصحراء الغربية بما يتجاوز 40 ألف مليار متر مكعب لكنها موارد غير متجددة بطبيعتها ما يعني أن سوء إدارتها قد يحرم الأجيال القادمة من فرص تنموية حقيقية.
إن المراقب لتحركات الدولة في هذا الإطار يدرك جيدا أن مصر تسعى لتجاوز منطق "إدارة الأزمة" إلى "إدارة المستقبل" فالمشروعات الكبرى مثل بحر البقر والدلتا الجديدة ليست حلولا وقتية بل رسائل سياسية واقتصادية بأن الدولة مستعدة لتأمين أمنها المائي بكل الأدوات سواء المعالجة أو التحلية وبالإدارة الرقمية والتوسع الزراعي الرشيد وفي ظل التحديات الإقليمية المرتبطة بسد النهضة يصبح الاستثمار الداخلي في مشروعات المياه بمثابة خط الدفاع الأول عن استقرار الدولة وأمنها الغذائي وبتقديري فإن ما يحدث اليوم يعكس بداية تحول حقيقي من التركيز على النيل كمصدر وحيد إلى بناء منظومة متكاملة ومتنوعة للموارد المائية فالتحدي لا يزال ضخما لكن مصر تبني ما يمكن وصفه بـ "اقتصاد مائي جديد" قائم على الكفاءة والتكنولوجيا وإعادة التدوير وهو ما قد يجعلها نموذجا إقليميا إذا استمرت على هذا النهج.