ما حكم لبس الحذاء أثناء قراءة القرآن؟.. الإفتاء توضح

ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول هل يجوز قراءة القرآن وأنا ألبس الحذاء في العمل؟ وأوضحت الدارإذا كانت السائلة على طهارة وكان الحذاء الذي تلبسه نظيفًا لا يحمل نجاسات ولم يُلَوَّث، فلا بأس ولا مانع شرعًا من قراءة القرآن وهي تلبسه، إلا أنه من الأفضل والأحسن أن تخلع حذاءها عند تلاوة كتاب الله الكريم.
فضل تعلم القرآن وتعليمه
حثَّ الشرع الشريف على تعلم القرآن وتعليمه، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعلمَ القرآن ومعلِّمَه خيرَ الأمة، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» أخرجه البخاري.
قال الإمام ابن بطال في "شرح البخاري" (10/ 265، ط. مكتبة الرشد): [حديث عثمان يدل على أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم دل ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيريةُ والفضلُ مِن أجل القرآن، وكان له فضلُ التعليم جاريًا ما دام كلُّ مَن علَّمه تاليًا] اهـ.
حكم حفظ القرآن الكريم والقدر الواجب على المسلم حفظه
تعلُّم القرآن الكريم وتعليمه من الأمور المطلوبة طلبًا مؤكَّدًا في الشريعة الغراء؛ على مستوى الأمة، وعلى مستوى الفرد:
فأمَّا على مستوى الأمة: فقد أجمع العلماء على أنه يجب على المسلمين القيام على القرآن الكريم حفظًا ونقلًا وتعلُّمًا وتعليمًا، وأن حفظَ القرآنِ كلِّه وضبطَه فرضُ كفاية على مجموع المسلمين؛ إن قام به بعضهم سقط الإثم عن باقيهم، وإن تركوه جميعًا أثموا جميعًا.
قال الإمام ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص: 156، ط. دار الكتب العلمية): [واتَّفقوا على استحسان حفظ جميعه، وأنَّ ضبط جميعه على جميع الأمة واجب على الكفاية لا متعيِّنًا] اهـ.
وأما على مستوى الفرد: فقد أجمعوا على أنَّه يجب على المكلَّف أن يحفظ من القرآن ما يقيم به صلاته وفرضه.
قال الإمام ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص: 156): [واتَّفقوا على أَن حفظ شَيء من الْقُرْآن واجب، ولم يتفقوا على مَاهِيَّة ذَلِك الشَّيء وَلَا كميته بِمَا يُمكن ضبط إجماع فِيهِ، إلَّا أَنهم اتَّفقُوا على أَنَّ مَن حفظ أمَّ الْقُرْآن ببِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم كلها وسورة أُخْرى معها فقد أدَّى فرض الْحِفْظ وَأَنه لَا يلْزمه حفظ أَكثر من ذَلِك] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 33، ط. عالم الكتب): [عن أبي عبد الله قال: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لا بد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل من تعلم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان. كذا وجدته، ولعله: وسورة، وإلا فلا أدري ما وجهه! مع أنه إنما يجب حفظه ما بلغ أن يجزئه في صلاته وهو الفاتحة؛ خاصة في الأشهر عن أحمد] اهـ.
بيان أن الوسائل لها أحكام المقاصد
لمَّا كان تعلُّم القرآن الكريم وتعليمه مطلوبًا من قِبَل الشرع الشريف كانت كل الوسائل المؤدية إلى تعلمه وتعليمه مشروعة تبَعًا لذلك -ومنها قراءة القرآن جماعة-، ما لم تكن الوسيلة محرمة في ذاتها؛ لما تقرَّر شرعًا أنَّ "للوسائل أحكام المقاصد".
قال الإمام العز ابن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (1/ 53، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [وللوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "الفروق" (2/ 33، ط. عالم الكتب): [الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة] اهـ.
مذهب جمهور الفقهاء في حكم قراءة القرآن جماعة
قد نصَّ جمهور الفقهاء على جواز قراءة القرآن الكريم جماعة في صوت واحد، بل على ندبه واستحبابه.
قال الإمام النووي في "المجموع" (2/ 166، ط. دار الفكر): [لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين؛ بل هي مستحبة] اهـ.
وقال في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 101، ط. دار ابن حزم): [اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهرة] اهـ.
وقال الإمام البهوتي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 255، ط. عالم الكتب): [ولا تُكره قراءةُ جماعةٍ بصوتٍ واحد] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (5/ 344، ط. دار الكتب العلمية): [وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء، ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوتٍ واحدٍ] اهـ.
وقال العلامة الونشريسي في "المعيار المعرب والجامع المغرب" (1/ 155، ط. أوقاف المغرب): [أما قراءة الحزب في الجماعة على العادة فلم يكرهه أحد، إلَّا مالكًا، على عادته في إيثار الاتباع. وجمهور العلماء على جوازه واستحبابه، وقد تمسكوا في ذلك بالحديث الصحيح: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، ثم إن العمل بذلك قد تضافر عليه أهل هذه الأمصار والأعصار، وهذه مقاصد مَن يقصدها فلن يخيب مِن أجرها، منها تعاهد القرآن حسب ما جاء فيه من الترغيب في الأحاديث، ومنها تسميع كتاب الله لمن يريد سماعه من عوامِّ المسلمين؛ إذ لا يقدر العامي على تلاوته فيجد بذلك سبيلًا إلى سماعه، ومنها التماس الفضل المذكور في الحديث؛ إذ لم يخصص وقتًا دون وقتٍ، ثمَّ إن الترك المروي عن السلف لا يدل على حكم إذا لم ينقل عن أحدٍ منهم أنَّه كرهه أو منعه في ذينك الوقتين] اهـ.
وهذا النوع من القراءة مشهور معروف في أهل المغرب قديمًا وحديثًا نص أبو الطاهر الفاسي على استحبابه، وذكر أن أوَّل مَن سنَّ ذلك بإفريقيا محرز التونسي. ينظر: "الفوائد الجميلة" للشوشاوي (ص: 238، ط. أوقاف المغرب).
مذهب الإمام مالك في حكم قراءة القرآن جماعة
روي عن الإمام مالك كراهتها؛ قال العلامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (1/ 352، ط. دار الفكر): [وكره مالك اجتماع القراء يقرؤون في سورة واحدة، وقال: لم يكن مَن عمل الناس، ورآها بدعة] اهـ.
وإنَّما قال الإمام مالك بالكراهة لضبط بعض الطرق غير المشروعة في القراءة؛ كأن يصاحب تلك القراءة لتحسين الأصوات محاولة زيادة بعضهم في صوته بما يُخرِج القراءة عن ضوابط التجويد، ينظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (1/ 298، ط. دار الغرب الإسلامي)، أو لتَلبُّس بعض من يمارسها بالمباراة في الحفظ والمباهاة في التقدم فيه، كما في "المنتقى" لأبي الوليد الباجي (1/ 345، ط. السعادة).
الأدلة على مشروعية قراءة القرآن جماعة
من ثَمَّ؛ فإِنَّه إذا ما احتُرِز عن هذه المنهيات في القراءة فإنه يجوز قراءة الجماعة مجتمعين بصوتٍ واحدٍ؛ لورود فعله عن السلف، ومما جاء في ذلك من فعل الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن معه نفر يقرؤون جميعًا. ينظر: "التبيان" للنووي (ص: 102).
قال سويد بن عبد العزيز: كان أبو الدرداء إذا صلَّى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه؛ فكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كلِّ عشرة عرِّيفًا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفًا على عشرة، كذا قال سويد، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر.
وعن مسلم بن مِشْكَمٍ قال: قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفًا وستمائة ونيفًا، وكان لكلِّ عشرةٍ منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء يكون عليهم قائمًا، وإذا أحكم الرجل منهم تحوَّل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه. ينظر: "معرفة القراء الكبار" للذهبي (ص: 20، ط. دار الكتب العلمية).
وممَّا يُستدَل به على الجواز أيضًا: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» أخرجه مسلم.