صدور كتاب "تشكّل الأنساق اللغوية في صناعة المعجم التاريخي"

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تشكّل الأنساق اللغوية في صناعة المعجم التاريخي: تطبيقات من معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، من تأليف حسين الزراعي، ضمن سلسلة إصدارات، في 225 صفحة.
يشمل الكتاب مقدمة، وستة فصول موزّعة على ثلاثة أقسام، وخاتمة، إضافة إلى جداول وأشكال ومسرد مصطلحات ومراجع وفهرس عامّ. ويسلّط الكتاب الضوء على أهمية دراسة الأنساق المعجمية التي تجمع بين الجذور والأصول والألفاظ ذات الصلات المشتركة، مؤكدًا أنّ معالجة المفردات خارج هذا السياق تؤدي إلى خلل في الصناعة المعجمية الحديثة. فالعزل بين الكلمات ونظائرها يُفقد المادة المعجمية دقّتها التأصيلية ويعرّضها للارتباك والتشوّش.
من هنا، فإنّ اعتماد فكرة الأنساق لا يحوّل المعجم إلى مجرد مستودع للمعاني، بل إلى نظام دقيق تحكمه علاقات ظاهرة بين الألفاظ، وهذا يدهش القارئ في حُسن الترتيب والتبويب، ويعكس عمق البناء الدلالي والإتيمولوجي فيه.
ينطلق كتاب تشكّل الأنساق اللغوية في صناعة المعجم التاريخي من رغبة في إرساء مقاربة نسقية للصناعة المعجمية التاريخية، تقوم على الربط المنظّم بين الألفاظ المتشابهة في الأصوات والمعاني والمباني، معتبرًا أنّ تجاهل هذه الأنساق يُخرج المادة المعجمية عن أصول التأثيل والتأصيل، ويجعلها عرضة للاضطراب والخلل. ومن هذا المنظور، لا يُنظَر إلى المعجم بوصفه مخزنًا للمعاني، بل بوصفه نظامًا بنيويًّا محكمًا، تتفاعل فيه العناصر وفقًا لمنطق داخلي يقوم على الترابط والتدرّج في الدلالة.
بين التأثيل والتأصيل: تفكيك المصطلحين وبناء العلاقة
يُظهِر الكتاب حرص المؤلف على تمييز مفهوم التأثيل من مفهوم التأصيل؛ فالأول هو تتبّع الجذور المتشابهة صوتيًّا أو صرفيًّا وإرجاعها إلى أصل مشترك، مع الأخذ في الاعتبار تقاطعات العربية مع اللغات السامية، وتنقيتها ممّا هو دخيل. أمّا الثاني، فهو تقصّي المعاني الأقدم للكلمة وردّ المعاني اللاحقة إليها من خلال التحليل الدلالي. ويرى أنّ هذين المفهومين يجتمعان في علم يتقاطع مع علم الإتيمولوجيا في اللسانيات الحديثة، ويتكاملان في بناء المعجم التاريخي الذي يعيد ربط الجذور بالدلالات في سياقاتها الزمنية.
أنواع الأنساق المعجمية: صوتية، صرفية، دلالية
يقترح المؤلِّف ثلاثة أنساق مركزية ينبغي أن تقوم عليها الصناعة المعجمية التاريخية: النسق الصوتي، الذي يربط بين الجذور المتقاربة صوتيًا مثل (ء ز ب)؛ (أ س ب)؛ (أ ذ ب) ... إلخ، مستندًا إلى العلاقات بين العربية واللغات السامية لاجتناب الوقوع في الخطأ التأثيلي؛ والنسق الصرفي الذي يعالج العلاقات التصريفية والأوزان المتكرّرة في الأبنية، مع الاستفادة من النحو التاريخي لتفسير التحولات والاتساع الاشتقاقي؛ ثم النسق الدلالي الذي يجمع الألفاظ ذات السمات الدلالية المتشابهة (مثل معاني الصغر أو الألوان) قبل صَوْغ المادة، ما يتيح تفسير الانحرافات أو الكسور في النسق كما هو الشأن في العلاقة بين "ضرب" و"شهد" في دلالتهما على العسل مثلًا.
من المعجم إلى العلوم الأخرى: اللغة منجم ثقافي
يبرز الكتاب أهمية الأنساق المعجمية بوصفها أدوات لا تخدم المعجم وحده، بل تغذّي ميادين معرفية أخرى مثل الأنثروبولوجيا، والآثار، والبيئة، والمستحاثات، إذ يرى في اللغة العربية حقلًا تاريخيًّا خصبًا للتنقيب؛ نظرًا إلى غناها الصوتي والدلالي وامتدادها الزمني. ويشدّد على أن خصائص العربية تجعلها جديرة بأن تُنتج معاجم تاريخية رصينة؛ فهي تمتلك امتدادًا تاريخيًّا حافظ على كثير من ألفاظها عبر ما يزيد على ألفَي عام، وتتمتع بغنًى واتساعٍ ظاهرَين في الفصحى واللهجات، فضلًا عن بنيتين صوتية وصرفية فريدتين تجعلان من التعريب عملية توليد لا مجرد ترجمة؛ إذ تنتج ألفاظًا جديدة تجري على اللسان العربي وإن لم تكن من أصوله.
بناء الكتاب وبنية مشروعه العلمي
يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، يضمّ كل منها فصلين، يتناول أولها الأصل الإتيمولوجي للأصوات العربية، مفترضًا أن اكتشاف النسق يسبق عملية المعجمة، ويعرض مباحثَ أخرى مثل الحاضنات الصوتية والبنيوية للألفاظ، كالجذر والصوت والصيغة، مشبّهًا الألفاظ بالكائنات الحيّة ضمن عائلات لغوية تُعدّ حواضن عضوية. وفي خلاصة فكرية نافذة، يُقرّ المؤلف بأنّ النسق في المعجم ليس ترفًا تنظيميًّا، بل ضرورة تتخطى حدود المدونة اللغوية، وتساهم في فهم الإنسان وتطور ثقافاته. وينتقل الفصل الثاني إلى بناء النماذج النسقية للأصوات التبادلية، ويُفتتح بتقدير لكتاب بيمان ميكايلي في المعجم الإتيمولوجي للغة العربية، ويقترح نموذجًا يرتكز على التبادلات الصوتية لا الجذر وحده، في خطٍّ منهجي متأثّر بمدرسة الخليل بن أحمد. ويُبرز أهمية العلاقة بين القلب المكاني والاشتراك المعنوي، وإمكانية التقاء جذوع مختلفة في أصل دلالي واحد، ما يتيح الانتقال من الحسي إلى المجرّد، ويُقدَّم مسار الإبدال الصوتي التاريخي آليةً تجريبية، لا اجتهادية فحسب. ثم يناقش المؤلّف نموذج جورج بوهاس في ثنائية الجذر، حيث جزء أبجدي ذو دلالة ثانوية، وآخر يحمل الثقل الدلالي، ويُوظَّف مفهومَا "الأثل" و"المصفوفات" لربط الجذور ذات المقطع الثنائي المشترك في المعنى، مع مقارنات هذا النموذج بالنموذج الخاص بالمؤلف. ويعرض نماذج من تاج العروس تبرز كيفية تشكّل النسق التأثيلي.
وفي القسم الثاني، ينتقل الحديث إلى الكلمة العربية باعتبارها بنية تحليلية تخالف الكلمة الإنكليزية التركيبية، ويقترح منهجين: تأليفيًّا يربط بين الجذر والصيغة، وتحليليًّا يفكّك الكلمة إلى جذع وسوابق ولواحق لتكوين نسق صرفي دقيق. ويتناول الفصل الثالث مفهوم الكلمة وما يسبقها من عناصر تأليفية، وأهمية الصيغة الصرفية بوصفها حاملة دلالة مستقلة تساهم في المعنى النهائي. أمّا الفصل الرابع، فيقدّم مراقبة نسقية نحوية وزمنية من خلال تاريخ الأفعال وتحوّل الصيغ في ما يُسمّى "المراقبة الرأسية"، ثم يعرض نماذج لضبط المعجم تاريخيًّا مثل شبكة الجذور والصيغ (جان كانتينو)، وانشطار الفتحة (إدريس السغروشني)، والمورفيمات المتوسعة. ويتابع القسم الثالث دراسة نسق المعنى وتطوّره، مركّزًا على الفرق بين تاريخ المعنى وتاريخيته، ومحذرًا من الثقة في المعنى المعزول، وداعيًا إلى تتبّع نسق المعاني وانتقال المجازات، وفقًا لشبكة من الحقول والوظائف. ويختتم بتطبيقات من كتاب العين ومعاجم تراثية أخرى، مثل نسق ألفاظ العظام وكسورها وجبرها، ونسق الألوان، والألفاظ الأعجمية وتحولاتها، في خلاصة تنظِّم المادة المصطلحية وتؤسِّس لمشروع معجمي رصين. وتتمحور الخاتمة حول مركزيّة الكلمة في الصناعة المعجمية، وضرورة التعامل مع الألفاظ باعتبارها كائنات اجتماعية متحرّكة بين الحياة والموت، تربطها علاقة عضوية بالمجتمع المنتج لها، حيث لا تُفهَم إلا ضمن أنساقها الثقافية، ما يستدعي إعادة بناء الكلمة داخل نسق لغوي شمولي تتداخل فيه الأصوات، والجذور، والصيغ، والمعاني، والمفاهيم، مع رؤية نسقية تجعل من المعجم العربي بنية حيّة لا مخزنًا ساكنًا.