مصر بين التزام التاريخ ومراوغات حماس: قراءة في دور القاهرة المحوري

في اللحظة التي تتشابك فيها خيوط السياسة الإقليمية، يصبح موقف حركة "حماس" إزاء مصر موضع دهشة واستغراب حتى لدى أكثر المراقبين تفهماً لتعقيدات الواقع الفلسطيني المصري. فقد بدت بعض تصريحات قادة حماس وأفعالهم، مؤخراً، مفعمة بالغموض، أقرب إلى التناقض منها إلى الموقف الاستراتيجي. هنا تظهر مصر ــ ممثلة في مؤسساتها السيادية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي ــ كقلب العروبة النابض الذي يدفع ضريبة الجوار والتاريخ، ويدرك جسامة الدور في زمن التحولات والمخاطر الكبرى.
موقف حماس: مفارقة الجوار ومنطق "العبور إلى المجهول"
لعل ما أطلقه بعض مسؤولي حركة حماس ــ وآخرهم دعوة خليل الحية "للزحف نحو فلسطين وحصار السفارات" وانتقاد الدور المصري على الحدود مع غزة ــ لا يُقرأ إلا ضمن منطق الضغط والمزايدة السياسية، في توقيت يكافح فيه المصريون بكل مؤسساتهم لتخفيف مأساة القطاع ومنع دردغة الدماء. هذه التصريحات تثير تساؤلات حول مدى التقدير الحقيقي الذي تكنه الحركة للدور المصري، وهل تراهن بالفعل على تدويل الأزمة على حساب الحليف التاريخي والجغرافي الأقرب؟ أم هو تخبط تحت وطأة العزلة وتهدج الأوضاع في غزة، حتى أنها بدت أحياناً تصرفات أقرب للعب بالنار من دبلوماسية المقاومة؟
لقد أصبح جلياً أن موقف حماس اتسم بالتأرجح: تارة تشكر القاهرة لتصديها لمخططات التهجير ودعمها الثابت للفلسطينيين، وتارة ترسل رسائل مبطنة بالاتهام أو الاستفزاز، كأنها تدير صراعها الداخلي عبر بوابة العلاقات مع مصر، متناسيةً حجم الجهد والخسائر التي تحملتها مصر من أجل القضية الفلسطينية.
جوهر الدور المصري: الوساطة والنخوة والصراحة
لمصر على مدار عقود خطاب واضح وموقف ثابت في دعم الحقوق الفلسطينية ورفض أية تصفية أو تهجير أو اجتزاء للهوية الفلسطينية. لكن في سنوات ما بعد 2013، ومع ما مثلته الدولة المصرية من موقف حاسم تجاه جماعة الإخوان التي ترتبط بها حماس فكرياً، انتقلت العلاقة من التشدد إلى البراغماتية، لكنها احتفظت دائماً بخيط من الحوار والمصلحة المشتركة. القاهرة تدرك وزنها الجيواستراتيجي: من معبر رفح إلى دبلوماسيتها القاهرة في إدارة ملفات الهدنة وتبادل الأسرى والمساعدات.
دور مصر بقيادة الرئيس السيسي تجاوز الدعم التقليدي إلى سياسة النفس الطويل والإدارة الدقيقة للأزمات؛ لم تغلق معبر رفح إلا لأسباب أمنية قاهرة، لم تستعمل معاناة غزة ورقة في بازار السياسة، ورفضت ـ بلا مساومة ـ أية مطالب بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو تفريغ القطاع من سكانه: "لن نشارك في ظلم الشعب الفلسطيني، ولن نقوم إلا بالدور الشريف والأمين في القضية". كل ذلك بينما تتحمل مصر الجزء الأكبر من المساعدات والوساطات، وتصر في كل منتدى دولي على اعتبار القضية الفلسطينية مركزية للكرامة العربية والضمير الإنساني.
الرئيس السيسي ونداء اللحظة: رسالة إلى ترامب والعالم
في أوج الأزمة الأخيرة، خاطب الرئيس السيسي المجتمع الدولي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب مباشرة:
"أوجه نداء خاصًا إلى الرئيس ترامب: أبذل كل جهد لوقف الحرب وإدخال المساعدات لغزة... أتصور أن الوقت قد حان لإنهاء هذه الحرب."
لم يكن هذا النداء مناورة إعلامية أو لعبة علاقات عامة، بل تعبير عن إدراك عميق لخطورة اللحظة وضراوة المعاناة في غزة، وإصرار على ألا يتحول قطاع غزة إلى مسرح لتصفية الحسابات أو إعادة رسم الخرائط على حساب الدم الفلسطيني أو السيادة المصرية. كانت كلمات الرئيس السيسي تحمل رسائل عدة:
لا يمكن لمصر أن تطبق حصاراً إنسانياً على الفلسطينيين؛ فقد فتحت أبوابها لأكبر حجم من المساعدات الغذائية والطبية رغم العقبات الدولية والإسرائيلية في التنسيق.
لن تسمح مصر بفرض حل خارج الشرعية الدولية أو تهجير الفلسطينيين أو تفريغ الأرض من أصحابها تحت أي ذريعة.
خلاصة هيكلية: هيبة الدور وإشكال اللحظة
ما يدعو إليه المنطق المصري، ويعجِز الآخرون عن بلوغه، هو أن تدرك حركة حماس وحلفاؤها أن السياسة عاقبة لا تدار بالصوت العالي أو المغامرة على الحافة. وأن مصر ــ الدولة المركزية صاحبة الإرث والعقل الراجح ــ إنما تختار الاحتواء والبناء لا الفوضى. وعلى حماس أن تدرك أنه لا انتصار للفلسطينيين إلا بمظلة القاهرة ودعمها، وأن الانسياق وراء خطاب المزايدة، أو اختبار صبر مصر، مصيره الفشل والتراجع أمام منطق الجغرافيا والتاريخ.
أما العالم، ورسالة الرئيس المصري إلى ترامب والغرب، فجوهرها أن الحق الفلسطيني لا يسقط باستمرار الحروب، بل بثبات الكبار على العدل، وصوت مصر سيظل عصياً على التزييف أو المتاجرة.
إن مصر لم تكن يوماً لاعباً على هامش التاريخ، وستظل عمود النصرة الأول للقضية الفلسطينية، مهما تعثرت الرؤى، وغامت المواقف، وتعددت نداءات الاستجداء والخذلان.