عاجل

«اعتبريني عيل»: هل تطلق المرأة لترك الزوج النفقة، وما هي قضية هند بنت عتبة؟

قضية الصحابية هند
قضية الصحابية هند بنت عتبة

«اعتبريني عيل».. هل تطلق المرأة لترك الزوج النفقة؟، سؤال أجابه الشيخ محمد أبوالنصر، من علماء الأزهر ووزارة  الأوقاف، وقال إن موضوع النفقة في الحياة الزوجية من أعظم الحقوق وأجلّ الواجبات التي أوجبها الشارع الحكيم على الزوج تجاه زوجته وأولاده. 

حكم النفقة على الزوج

وبين أنه ليس مجرد عطاء مادي، بل هو أمانٌ واستقرارٌ، وتعبيرٌ عمليٌ عن القوامة والمسؤولية. ولقد باتت ظاهرة التهرب من هذه المسؤولية، وترك الزوج لزوجته وأولاده بلا نفقة كافية، ثم يزيد الطين بلة بقوله: "اعتبريني عيل" أو "تحمّلي المسؤولية بدلاً مني"، إحدى الأزمات التي تُهدد بناء الأسرة وسلامة المجتمع.

وتابع: نقف اليوم لنتفكر ونتبصَّر في حكم الشرع في هذه المسألة، ومدى حق الزوجة في طلب الفُرقة (الطلاق أو الفسخ) بسبب إخلال الزوج بهذا الواجب الأساسي.

أولاً: النفقة – واجب شرعي وحق إنساني (القوامة والمسؤولية)، حيث إن النفقة على الزوجة والأولاد هي أول وأهم أثر يترتب على عقد الزواج الصحيح، وهي ركن أساسي في مفهوم القوامة التي خصَّ الله بها الرجال.

● النفقة أساس القوامة ومظهر المسؤولية:

وبين أنه قد نصَّ القرآن الكريم صراحة على هذا الواجب مقرونًا بذكر القوامة، وهو ما يُعطي للنفقة بُعدها التشريعي والاجتماعي. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (سورة النساء: الآية 34). فالآية الكريمة واضحة؛ فالقوامة ليست تسلطًا، بل هي تكليف بمسؤولية، وأساسها المادي هو الإنفاق. فإذا تخلَّى الزوج عن واجب الإنفاق، فإنه يهدم الأساس الذي بُنيت عليه قوامته، ويُعرِّض هذا البناء العائلي لخطر الانهيار.

● الإنفاق كفارة وبركة:

وأشار إلى أن الشرع الحنيف لم يجعل النفقة عبئًا، بل جعلها صدقة مأجورًا عليها، ووسيلة لتكفير الذنوب وزيادة الرزق. لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك" أخرجه مسلم

ولفت إلى أن الزوج الذي يمتنع عن النفقة، لا يخسر فقط الأجر العظيم، بل يرتكب ذنبًا عظيمًا بالتقصير في حقوق الأهل، وربما كان هذا القول: "اعتبريني عيل"؛ هو تنصُّلٌ صريحٌ من هذا التكليف الشرعي، وتحويلٌ للزوجة من شريكة وقرينة إلى عائلٍ ومسؤولٍ عن زوج راشد، وهو ما يُخالف فطرة القوامة وشرع الله.

حكم ترك النفقة وقول الزوج: "اعتبريني عيل"

وفي بيان حكم ترك النفقة، إن ترك الزوج للنفقة هو إضرارٌ بالغٌ بالزوجة والأولاد، وهو يُقسم إلى حالتين فقهيتين رئيسيتين:

● حالة العجز عن النفقة (الإعسار):
إذا كان الزوج فقيرًا أو معسرًا لا يملك ما ينفقه، فالمسألة الفقهية تدور حول حق الزوجة في طلب الفسخ (فسخ عقد الزواج) لعدم قدرة الزوج على القيام بالواجب.

فالعلماء: يرون أن للمرأة حق طلب الفسخ بسبب إعسار الزوج وعدم قدرته على النفقة، ويجب على القاضي أن يمهله مدة، فإن لم يُنفق، كان لها حق الفسخ دفعًا للضرر عنها. وهذا هو الراجح والمعمول به في كثير من المحاكم الشرعية.

وهناك من يرى : أن الزوجة لا تُفرَّق عن زوجها بسبب إعساره، بل تُؤمر بالاقتراض عليه .

حالة الامتناع عن النفقة مع القدرة (المطل الغني): هذه هي الحالة الأشد خطورة وذنبًا، وهي الحالة التي ينطبق عليها غالبًا قول الزوج: "اعتبريني عيل"، أي أنه قادر مادياً ولكنه يرفض تحمل المسؤولية.

• الوعيد الشديد في المطل الغني: الزواج الذي يمتنع عن النفقة وهو قادر آثمٌ شرعًا إثمًا عظيمًا، وهو من الظلم الذي لا يرضاه الله ورسوله، ولقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الفعل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ" أخرجه البخاري ، ومسلم). 

"مَطْلُ الْغَنِيِّ" يعني تأخيره وتسويفه في أداء الحقوق وهو يملك المال. فإذا كان تأخير دفع الديون ظلمًا، فكيف بتأخير النفقة الواجبة للأهل والأطفال الذين لا مُعين لهم سواه؟ إنه ظلمٌ مضاعفٌ وكبيرةٌ من الكبائر.

• قول "اعتبريني عيل" يُعزز من حقها في الفسخ:

وشدد: هذا القول هو اعتراف ضمني بـالتخلي عن واجب القوامة والإنفاق، واعتراف ضمني بأنه يريد حياة لا التزامات فيها، وهو ما يُخالف مقصد الزواج الشرعي، ويُدخِل الضرر عليها، ويُعطي الزوجة سببًا قويًا لطلب الفسخ أو الطلاق للضرر، وهو ما يُقرره الفقه الإسلامي إذا كان هناك ضرر لا يُحتمل.

حق المرأة في طلب الفسخ أو الطلاق للضرر

إذا تضررت الزوجة وأولادها من ترك النفقة، فإن الشرع يُعطيها المخرج، وهو حقها في طلب إنهاء العلاقة الزوجية لرفع الضرر عنها، سواء بالطلاق إذا كانت بيد الزوج، أو بالفسخ إذا رفعته إلى القضاء.

ودليل رفع الضرر في الشريعة: القاعدة الفقهية الكبرى هي "لا ضرر ولا ضرار". فإذا أصبح البقاء في الزوجية مضرًا بها أو بأولادها (من جوع أو عوز أو حاجة)، كان لها الحق الشرعي في طلب الفراق.

لحديث لا ضرر ولا ضرار: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى: "أَنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" (خرجه ابن ماجه) 

وأكد أن ترك الزوج لأهله بلا نفقة هو الضرر بعينه، لأنه يُعرِّضهم للحاجة وربما للذل والسؤال، ويُثقل كاهلها بأعباء لا تُطيقها، ولا يُلزمها الشرع بتحملها.

حق المرأة في أخذ نفقتها من مال زوجها (قضية هند بنت عتبة): 

إذا كان الزوج مُمتنعًا، فللزوجة أن تأخذ من ماله ما يكفيها وأولادها بالمعروف دون علمه، وهذا دليلٌ على أن النفقة حق لازم.

عن عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. قال: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ" (خرجه البخاري، ومسلم ).

هذا الحديث يُثبت أن النفقة حقٌ مُقدَّمٌ على رضا الزوج، وإذا امتنع، فلها أن تأخذ حقها. وإذا لم يكن له مال ظاهر تأخذ منه، أو زاد الضرر لعدم كفايتها، كان اللجوء للقضاء وطلب الفسخ هو الحل الشرعي الأخير لرفع الضرر.

نداء إلى كل مسؤول

وقال إن الحياة الزوجية ليست "شركة تجارية" بل هي "ميثاق غليظ"، والنفقة ليست "صدقة" بل "أمانة ومسؤولية".

● الميثاق الغليظ وأمانة الأولاد: لقد وصف الله سبحانه وتعالى عقد الزواج بأنه ميثاق غليظ، وهو ما يجب أن يترسخ في وجدان كل زوج. {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (سورة النساء: الآية 21).

وقال إن الزوج الذي يتنصل من مسؤولية النفقة بقوله: "اعتبريني عيل"، يُنقض هذا الميثاق ويُلقي بأمانة الأولاد عرض الحائط، فمن المسؤول عن تربية هؤلاء الأطفال ماديًا ومعنويًا إذا تخلى الأب؟!
● المسؤولية يوم القيامة: ليتذكر الزوج أن كل راع مسؤول عن رعيته، وأن التفريط في حق الأهل من أقبح التهاون.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا..."  (خرجه البخاري ، ومسلم).
فإذا كان الزوج راعيًا، فكيف ينام قرير العين وأهله في حاجة؟ وكيف يقول "اعتبريني عيل" وهو المسؤول الأول عنهم أمام الله؟ إن هذا القول هو دعوة للتبعية بعد القوامة، واستقالة من منصب الرعاية الشرعي.

ونبه أن إهمال الزوج للنفقة، خصوصاً مع القدرة، والتهرب من المسؤولية بقول: "اعتبريني عيل"، هو إضرارٌ بالغٌ يمس جوهر القوامة وأساس الحياة الزوجية. نعم، يحق للمرأة شرعًا أن تطلب الفسخ أو الطلاق للضرر إذا تضررت هي وأولادها بسبب امتناع الزوج عن النفقة، سواء كان قادرًا "مُماطلاً" أو معسرًا "عاجزًا"، لأن الشرع يُوجب رفع الضرر عن الزوجة والأولاد، ولا يُلزمها بالبقاء في علاقة تُعرِّضها هي وأبناؤها للحاجة والعوز.

تم نسخ الرابط