عاجل

هناك لحظات مهنية تشهد فيها شيئًا يتجاوز حدود المنطق اليومي، ويتوقف العقل البشري عن استيعابها، لحظات تُشعرك أن ما تراه أمامك ليس مجرد مسؤول حكومي، بل حالة خاصة تستحق التأمل.

هذا ما حدث لي يوم رافقت الفريق كامل الوزير- نائب رئيس الوزراء، وزير الصناعة والنقل - في جولة تفقدية امتدت من قلب قنا حتى حدائق أكتوبر.

رحلة بدأت في السابعة صباحًا، وانتهت بعد 12 ساعة كاملة، ولم تهتز فيها خطوة واحدة للرجل، من قفط إلى هو، ومن أبو تشت إلى أُبيدوس بسوهاج ثم مرورا إلى باقى محافظات الصعيد.

أول المحطات كانت المنطقة الصناعية بقفط، ثم المنطقة الصناعية بهو، مرورًا بالكوبري العلوي في أبو تشت، حتى سوهاج حيث تفقد محطة القطار السريع في أبيدوس قبل أن يشق طريقه إلى الجيزة وحدائق أكتوبر.

جغرافيا متباعدة، طرق طويلة، ملفات معقدة، ومع ذلك كان الوزير يتحرك كأنه يقرأ خريطة محفوظة في ذاكرته منذ سنوات.

الغريب الرجل لم يمسك ورقة واحدة بيده، لا مستند، لا مذكرة، ينادي العمال بالاسم يعرف مهندسين وفنيين، يعرف أرقام خطوط إنتاج، أسماء شركات، عدد مصانع مغلقة، حجم ديون، جداول تشغيل، هذا مادفعنا للتساؤل: ما حجم هذه الأرقام المخزنة في ذهنه؟ وكيف يستطيع حفظ كل هذه الأرقام وبالسرعة الحاضرة هذه.. الفريق كامل الوزير كأنه كان يعيش داخل كل مشروع قبل أن يصل إليه.

نحن كفريق عمل، وصل بنا الإرهاق حد إن النفس ضاق، والعيون بدأت تزوغ، لكن الرجل يتحرك بطاقة (مشحونة لا تضعف) يلف، ويشرح، ويحاسب، ويعطي تعليمات، ويمازح العمال، ويسلم على "الحاج فلان" و"عم فلان" بحرارة وكأنه يعرفهم منذ عقود.

لا توقف، ولا جلس، ولا حتى ظهرت عليه شارة تعب، كأنه في بداية يومه لا في ساعته الثانية عشرة.

وفي قلب الجولة، كان محور الحديث الأهم: ملف المصانع المتعثرة والمغلقة، الرجل يتحدث بمنطق لا مكان لمصنع ميت في دولة تريد نهضة"، أكد أن الأرقام يتم مراجعتها يوميًا، وأن خطة الإحياء الصناعي تُنفذ بالساعة والدقيقة، ليس بالأسابيع، مصانع تعود للعمل، أخرى يجري إعادة تأهيلها، وثالثة يتم دعمها لتوسيع الإنتاج بدل الاكتفاء بالحد الأدنى منه.

من أهم ما قاله وربما أعمقه، كان حديثه عن فكرته بإنشاء مدرسة للتنمية الصناعية، تُخرج عمالة مُدربة تدريبًا حقيقيًا، لا شهادات ورقية، مدرسة تُعيد صياغة مفهوم العامل المصري، عامل فاهم، منضبط، يعرف التكنولوجيا الحديثة، وقادر ينافس في أي سوق.

الفريق كامل الوزير واضح في جهده، في سرعته، في ذاكرته، في انحيازه للعمال، وفي إيمانه بأن الصناعة ليست مصانع فقط، بل ناس.

وأنا كمواطن قبل ما أكون صحفي، خرجت من الجولة بسؤال: كيف يجمع رجل واحد كل هذا الجهد، وكل هذه الأرقام، وكل هذه الطاقة، بلا ورقة واحدة؟ ربما الإجابة جزء من اللغز، وربما اللغز نفسه هو سر نجاحه.

تم نسخ الرابط