«ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً».. 9 مراحل لـ خلق الإنسان في القرآن هل تعرفها؟
ما هي أطوار خلق الإنسان كما بينها القرآن الكريم؟، سؤال بينه الدكتور محمد الرملاوي الأستاذ بجامعة الأزهر.
أطوار خلق الإنسان
يقول الرملاوي: يُعد خلق الإنسان من أعظم دلائل القدرة الإلهية التي عرضها القرآن - الكريم - بأسلوب بليغ يجمع بين الإعجاز البياني والدقة العلمية، فقد تناولت آيات كثيرة أطوار تكوين الإنسان منذ بدايته الأولى من طين، مرورا بمراحله الجنينية في الرحم، حتى تمام خلقه ونشأته خلقا آخر.
ومن أروع ما ورد في هذا البيان قول الله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾. سورة المؤمنون، الآية: 12 -16.
وتُظهر هذه الآيات المتتابعة بوضوح تسلسل الأطوار التي يمرّ بها الإنسان في خلقه، مما يكشف عن انسجام النص القرآني مع حقائق الخلق في أدقّ صورها، ويؤكد أن هذا البيان الرباني ليس مجرد وصف لغوي، بل هو دعوة للتفكر في عظمة الخالق وقدرته.
جاء في مفاتيح الغيب للرازي في تفسير هذه الآيات القرآنية، قوله: "أدوار الخلقة وأكوان الفطرة وهي تسعة :
المرتبة الأولى : قوله - سبحانه تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ } والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر ، فُعالة وهو بناء يدل على القلة كالقُلامة والقُمامة ، واختلف أهل التفسير في الإنسان فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد منه آدم عليه السلام فآدم سل من الطين وخلقت ذريته من ماء مهين ، ثم جعلنا الكناية راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم ، والإنسان شامل لآدم عليه السلام ولولده ، وقال آخرون : الإنسان ههنا ولد آدم والطين ههنا اسم آدم عليه السلام ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً ، وهذا التفسير مطابق لقوله - تعالى- : {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مهِين} [السجدة: 7، 8] وفيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إنما يتولد من النطفة وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء فالإنسان بالحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً ، وهذا التأويل مطابق للفظ ولا يحتاج فيه إلى التكلفات .
المرتبة الثانية : قوله - تعالى - : { ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء، فقذَفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة، والمراد بالقرار موضع القرار وهو المستقر .
المرتبة الثالثة : قوله - تعالى - : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد .
المرتبة الرابعة: قوله -تعالى- : { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ ...
المرتبة الخامسة: قوله:{فَخَلَقْنَا المضغة عظاما } أي صيرناها كذلك.
المرتبة السادسة: قوله-تعالى- :{ فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها .
المرتبة السابعة : قوله - تعالى - : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم ، وبصيرا وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين ، ولا شرح الشارحين ، وروى العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما-، قال : هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب ، وخلْق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت ، ودليل هذا القول أنه عقبه بقوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ } وهذا المعنى مروي أيضاً عن ابن عباس وابن عمر.
المرتبة الثامنة : قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ } قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن { لمائتون } والفرق بين الميت والمائت ، أن الميت كالحي صفة ثابتة ، وأما المائت فيدل على الحدوث تقول زيد ميت الآن ومائت غداً ، وكقولك: يموت ونحوهما ضيق وضائق في قوله : { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [ هود : 12 ] .
المرتبة التاسعة : قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } فالله - سبحانه - جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضاً على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع."
فالإمام الرازي - رحمه الله - يوضح في تفسيره للآيات السابقة التسلسل البديع الذي ذكره القرآن - الكريم - في أطوار خلق الإنسان؛ إذ يبدأ الإنسان رحلته من الطين، ذلك الأصل البسيط الذي يحمل في جوفه سرَّ الحياة الأولى، ثم ينتقل هذا الأصل عبر مسار الخلق إلى نطفة تُودَع في رحم مُهَيَّأ ليكون قرارا مكِينًا لنموها، وما تلبث النطفة أن تتحول إلى علقة تتشبث بجدار الرحم، إيذانا بمرحلة جديدة من التكوين، ثم تتطور إلى مضغة أشبه بقطعة لحم صغيرة تتمايز فيها بدايات البنية الجسدية، ومن هذه المضغة يبدأ تَشكُّل العظام، وهي الإطار الأول للجسد، ثم تأتي بعدها مرحلة كسوتها لحما؛ فيتكامل بناء الجسد ويأخذ هيئته المناسبة للحياة، ويصف الإمام الرازي - رحمه الله - بعد ذلك أعجب مراحل الخلق، وهي مرحلة الخلق الآخر؛ حيث يُمنَح الإنسان الروح، ويُجَهَّز بملكاته العليا من السمع والبصر والعقل، لينتقل من مجرد مادة نامية إلى كائن ذي وعي وقدرة واستعداد للتكليف، ويمضي الإنسان بعد ذلك في مسار وجوده حتى يبلغه الموت، وهو استكمال لسُنّة الخلْق وانتهاء للمرحلة الدنيوية، ثم يُعاد إنشاؤه من جديد في البعث يوم القيامة، ليقف بين يدي خالقه للحساب والجزاء، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾، المؤمنون: ١٤.



