جاء قرار السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بالموافقة على إصدار قانون الإجراءات الجنائية الجديد ليمثل نقطة تحول جوهرية في مسار العدالة المصرية، وتجسيدا لإرادة سياسية واعية تدرك أن بناء الدولة الحديثة لا يكتمل دون منظومة عدلية متكاملة توازن بين حق المجتمع في الأمن والعدالة، وحق الفرد في الحرية والكرامة وضمانات المحاكمة العادلة.
إن صدور هذا القانون لا يعد مجرد تعديل تشريعي أو استكمالا لمسار قانوني قائم، بل هو تحول بنيوي شامل في فلسفة التقاضي وإجراءات العدالة الجنائية في مصر، يواكب التغيرات المتسارعة في الواقع العملي، ويستجيب للتحديات الجديدة التي فرضها التطور التكنولوجي وتنوع الجرائم وتشابك المصالح في العصر الحديث.
منذ صدور قانون الإجراءات الجنائية القديم عام 1950، شهد المجتمع المصري تحولات عميقة على المستويين الاجتماعي والسياسي، ما جعل الحاجة إلى تحديث هذا القانون أمرا ضروريا وملحا فجاءت رؤية القيادة السياسية بقيادة الرئيس السيسي لتؤكد أن العدالة الناجزة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تشريعات عصرية متوازنة تضمن سرعة الفصل في القضايا دون الإخلال بحقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة.
القانون الجديد يأتي محملا بحزمة من الضمانات غير المسبوقة للمتهمين و المجني عليهم على حد سواء، إذ يوسع من نطاق الحقوق الدستورية، ويؤكد مبدأ علانية الجلسات، ويضمن حق الدفاع على نحو أكثر تنظيما وفاعلية، مع تعزيز دور النيابة العامة في التحقيق بما يحقق الشفافية والتوازن.
لقد حرص المشرع على أن يتماشى هذا القانون مع روح الدستور المصري، ومع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها مصر، مما يجعله أحد أكثر القوانين الجنائية تطورا في المنطقة كما راعى القانون في نصوصه إدماج التكنولوجيا في منظومة العدالة، سواء من خلال المحاكمات عن بعد، أو بتوسيع نطاق استخدام الوسائل الإلكترونية في إجراءات الضبط و التقاضي، وهو ما يعكس تطور الرؤية الإدارية و العدالة للدولة المصرية.
واحدة من أبرز الإشكاليات التي كانت تواجه منظومة العدالة في مصر هي بطء التقاضي وطول أمد القضايا، مما كان يؤثر سلبا على ثقة المواطن في العدالة. القانون الجديد عالج هذه المعضلة بذكاء، عبر وضع ضوابط زمنية محددة للإجراءات، وتبسيط مسارات التقاضي دون الإخلال بجوهر العدالة، حيث تقوم فلسفة هذا القانون على تحقيق توازن دقيق بين مبدأ السرعة في الفصل ومبدأ ضمان الحقوق، وهو توازن يحتاج إلى وعي قضائي وإداري عال، تتوافر مقوماته اليوم في ظل تطوير المنظومة القضائية وتحديث البنية التحتية التكنولوجية للمحاكم، وما تشهده النيابة العامة من تطور رقمي شامل في إطار "التحول الرقمي للعدالة.
إن أحد الجوانب المضيئة في هذا القانون هو أنه يجسد أرقى صور التعاون بين سلطات الدولة الثلاث: التشريعية التي صاغت النصوص بتأني وحرص على الصالح العام، والتنفيذية التي وفرت البيئة القانونية والدستورية الداعمة، والقضائية التي أسهمت بخبرتها في صياغة مواد القانون بما يضمن التطبيق العادل وهذا التكامل المؤسسي يعكس نضج التجربة المصرية في إدارة ملفات الإصلاح التشريعي، وحرص القيادة السياسية على أن يكون كل تعديل أو تشريع جديد نابعا من احتياجات المجتمع ومقتضيات العدالة، لا مجرد استجابة شكلية للواقع.
وفي ضوء التحولات التي تشهدها الدولة المصرية في كل المجالات، من البنية التحتية إلى التحول الرقمي، ومن الإصلاح الاقتصادي إلى بناء الإنسان، فإن تحديث منظومة العدلة يمثل الركيزة الثالثة لبناء الجمهورية الجديدة، فلا تنمية مستدامة دون عدالة ناجزة، ولا استقرار اجتماعي دون ثقة في المؤسسات القضائية ومن هنا تأتي أهمية هذا القانون كأداة لترسيخ مبادئ سيادة القانون والمواطنة والمساواة أمام القضاء.
القانون الجديد يعيد الاعتبار لمفهوم العدالة باعتبارها خدمة عامة ومصلحة مجتمعية، لا مجرد إجراءات قانونية جامدة. فالعدالة هنا ليست فقط حماية للمتهم من التعسف، بل هي أيضا إنصاف للمجني عليه والمجتمع، وتحقيق للردع العام في إطار من الاحترام الكامل للكرامة الإنسانية.
الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ توليه المسؤولية وضع العدالة في صلب مشروعه الوطني، إدراكا منه بأن إصلاح الدولة لا يكتمل دون إصلاح في أدوات إنفاذ القانون، ومن يتأمل خريطة الإصلاحات التشريعية خلال السنوات الماضية يلحظ أن الدولة تتحرك وفق رؤية متكاملة تشمل قانون الإجراءات الجنائية، وقانون العقوبات، وقانون مكافحة الإرهاب، وقوانين حماية الطفل والمرأة وذوي الإعاقة، وهي جميعها تصب في هدف واحد: إقامة دولة القانون والمؤسسات.
القانون الجديد يتوقع أن يحقق تغييرا جذريا في تجربة التقاضي داخل مصر، بما يسهم في تخفيف العبء عن المحاكم، وتقليل فترات الحبس الاحتياطي، وتوسيع نطاق بدائل العقوبات، وهي خطوات تنسجم مع الاتجاهات العالمية الحديثة التي تركز على العدالة الإصلاحية لا العقابية فقط، كما أن تطبيق القانون سيمنح مصر مكانة متقدمة على المستويين الإقليمي والدولي في ملف سيادة القانون، باعتباره نموذجا متوازنا يجمع بين حماية المجتمع وصون الحريات الفردية.
القانون لا يمكن قراءته بمعزل عن الدور البارز الذي لعبه البرلمان المصري في مناقشة مواده وإقرارها بعد حوار عميق و مستفيض شاركت فيه كل الجهات المعنية، وفي مقدمتها النيابة العامة ومجلس القضاء الأعلى وممثلو المجتمع المدني، في مشهد يعكس حالة من النضج السياسي والتشريعي الذي وصلت إليه الدولة المصرية و أثبتت التجربة أن التنسيق بين مؤسسات الدولة هو الطريق الأمثل لإنجاز تشريعات راسخة تستند إلى خبرة واقعية وفكر مستنير، وأن حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على إخراج هذا القانون إلى النور في هذا التوقيت، يؤكد إصرار الدولة على بناء منظومة عدالة حديثة تكرس لسيادة القانون وتكفل لكل مواطن حقه الأصيل في الإنصاف والكرامة.
في الختام... إقرار قانون الإجراءات الجنائية الجديد هو ترجمة حقيقية لفكر القيادة السياسية التي ترى أن العدالة ليست شعارا بل ممارسة يومية تعكس تحضر الدولة ومدى احترامها لمواطنيها، وخطوة تعبر عن مصر التي تبني جمهوريتها الجديدة على أسس من القانون، والكرامة، والعدالة، والوعي، وتؤكد أن الإصلاح التشريعي هو الطريق الآمن نحو مجتمع يسوده الأمن والطمأنينة وثقة المواطن في مؤسسات وطنه وبذلك، فإن قانون الإجراءات الجنائية الجديد لا يعد مجرد قانون يضاف إلى سجل التشريعات المصرية، بل هو وثيقة عدالة جديدة تعبر عن روح الجمهورية الجديدة، وترسخ لمستقبل أكثر عدلا و إنصافا لكل المصريين.