المتحف الكبير من التصميم إلى الافتتاح.. قصة المكتب الأيرلندي الذي أبهر العالم
لم تكن تتوقع المهندسة المعمارية الأيرلندية رويسين هينيغان أن مكالمة هاتفية قصيرة ستغير حياتها إلى الأبد، ففي عام 2003، وبينما كانت تدير مكتبها الصغير في دبلن مع زوجها، تلقت اتصالًا يخبرها أن شركتها Heneghan Peng Architects فازت بتصميم واحد من أكبر المتاحف في العالم: المتحف المصري الكبير.
تقول هينيغان في حوارها مع شبكة CNN: "اعتقدت أن الأمر مزحة، أغلقت الهاتف وعدت لأتأكد أن الاتصال لم يكن خدعة، كان ذلك لحظة لا تُصدق".
حلم مصري بدأ في 2002
الرحلة لم تبدأ من هنا فقط، بل من عام 2002، عندما أعلنت الحكومة المصرية عن مسابقة دولية لتصميم المتحف المصري الكبير، ليكون صرحًا يليق بتاريخ مصر العريق، ويقع على مرمى البصر من أهرامات الجيزة.

وتنافس في المسابقة أكثر من 1500 مكتب معماري من 80 دولة، لكن المفاجأة كانت فوز مكتب صغير من أيرلندا لم يكن معروفًا في الأوساط المعمارية حينها.
ومنذ ذلك الوقت، تحول الحلم إلى مشروع ضخم تجاوزت تكلفته مليار دولار واستغرق أكثر من عقدين حتى أصبح حقيقة.
افتتاح تاريخي طال انتظاره
اليوم، وبعد 22 عامًا من التخطيط والبناء، تفتح مصر أبواب المتحف المصري الكبير رسميًا في حدث عالمي وصفته الحكومة بأنه نقطة تحول في تاريخ السياحة المصرية.
وأعلنت الدولة عطلة رسمية احتفالًا بهذا الافتتاح المنتظر، وسط حضور دولي واسع وإبهار بصري يعكس عظمة الحضارة المصرية.
عقبات على مدار عقدين
لم يكن الطريق إلى الافتتاح مفروشًا بالورود، فمنذ الإعلان عن المشروع عام 1992، واجهت مصر والعالم أحداثًا كبرى أخرت التنفيذ؛ من ثورة يناير 2011 إلى الأحداث السياسية في 2013، وصولًا إلى جائحة كورونا التي أوقفت الحياة في 2018، وهو العام الذي كان متوقعًا فيه افتتاح المتحف.

لكن مع ذلك، لم يتراجع الأمل، واستمرت فرق العمل في البناء والتطوير حتى خرج المشروع للنور أخيرًا.
تصميم معمارية آمنت بالحلم
تقول هينيغان، التي كانت في الثلاثينيات من عمرها عند فوزها بالمسابقة، إنها لم تصدق أنها ستصمم صرحًا بهذه العظمة.
ورغم أنها لم تحصل على دور إشرافي في التنفيذ، إلا أن فريقها تابع مراحل العمل عن بعد باستخدام صور الأقمار الصناعية وخرائط جوجل لمراقبة التقدم.
توضح المهندسة: "في مصر، فرق الإشراف تختلف عن فرق التصميم، لذلك كنا نتابع عن بعد، لكننا تمسكنا برؤيتنا الأولى".
فلسفة التصميم.. احترام الجوار التاريخي
أن تصمم مبنى بجوار أهرامات الجيزة يعني أنك أمام تحد فريد، فكيف يمكنك بناء صرح عظيم دون أن يطغى على إحدى عجائب الدنيا السبع؟.

اختارت هينيغان وزوجها نهجًا بسيطًا ومتواضعًا بصريًا، فقد تم تصميم المبنى بحيث يميل سقفه باتجاه قمة الهرم الأكبر دون أن يتجاوزها، وكأن البناء يحيي الهرم لا ينافسه، وتقول: "كان هدفنا أن نخلق حافة جديدة لهضبة الجيزة، لا أن نسرق منها الأضواء".
من الخارج إلى الداخل.. رحلة من الإبهار
يبدأ الزوار رحلتهم في المتحف من ساحة ضخمة مزينة بالحدائق والمسطحات الخضراء، تتوسطها مسلة فرعونية عملاقة تزن 87 طنًا.
ومنها يدخلون إلى بهو شاهق الارتفاع يتوسطه تمثال رمسيس الثاني بارتفاع 11 مترًا، يستقبل الزائرين بعظمة تناسب أول ملوك مصر الذين خلدوا التاريخ.

الواجهة الخارجية للمتحف تجمع بين الحجر الجيري المحلي والزجاج والخرسانة، لتخلق توازنًا بين الأصالة والحداثة.
الضوء الطبيعي.. سر الإحساس بالحياة داخل المتحف
ما يميز تصميم المتحف أنه يستفيد من الضوء الطبيعي بدلاً من الاعتماد الكامل على الإضاءة الصناعية.
تشرح هينيغان قائلة: "أردنا أن يشعر الزوار بوهج الشمس المصرية التي أضاءت هذه الحضارة منذ آلاف السنين، بعض القطع الحجرية يمكنها تحمل الضوء الطبيعي، وهو ما يخلق طاقة فريدة في المكان".
درج الملوك.. رحلة عبر الزمن
أحد أكثر العناصر إبهارًا في التصميم هو الدرج الكبير، الذي يمتد على ستة طوابق، وتعرض على جانبيه تماثيل فرعونية ضخمة مرتبة زمنيًا من الأحدث إلى الأقدم.
ويصل الزائر في النهاية إلى مشهد بانورامي يخطف الأنفاس: إطلالة مباشرة على أهرامات الجيزة من خلف الزجاج الشفاف للمتحف.
كنوز لا تقدر بثمن
يضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل مختلف العصور المصرية القديمة، من عصر ما قبل الأسرات وحتى العصر القبطي.

لكن الجوهرة الأهم هي قاعة الملك توت عنخ آمون التي تحتوي على 5000 قطعة أثرية من مقتنياته، تعرض لأول مرة مجتمعة في مكان واحد.
القاعة مصممة لتأخذ الزائر في تجربة حسية وتاريخية تجعلهم يعيشون حياة الفرعون الشاب بكل تفاصيلها.
متحف واحد.. حضارة تمتد لآلاف السنين
المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى، بل هو متحف مفتوح للحضارة المصرية، والزائر هنا لا يشاهد القطع فحسب، بل يعيش القصة فكل قاعة تحكي فصلًا من تاريخ مصر من نهر النيل، إلى الفراعنة، إلى الأسرات، وصولًا إلى الفتح اليوناني والروماني، إنه متحف مصمم ليتحدث بلغة الحجارة والنقوش والألوان، لا بلغة الكلمات فقط.
من فكرة إلى رمز عالمي
أصبحت شركة Heneghan Peng من الأسماء المعروفة عالميًا في عالم العمارة، لكن هينيغان تؤكد أن هذا المشروع غيرها شخصيًا ومهنيًا، وتقول: "المتحف المصري الكبير علّمني أن الصبر في التصميم أهم من أي شهرة، عندما ترى حلمًا عمره 20 عامًا يتحقق أمامك، تدرك أن الإبداع الحقيقي يحتاج وقتًا لينضج".
مصر تعود إلى صدارة المشهد العالمي
مع افتتاح المتحف المصري الكبير، تعود مصر إلى صدارة خريطة السياحة العالمية، فهو ليس مجرد وجهة أثرية، بل مركز عالمي للتعلم والحوار الثقافي، ومن المتوقع أن يستقبل أكثر من 5 ملايين زائر سنويًا.
وأكدت وزارة السياحة والآثار أن الافتتاح الرسمي يعد بداية لعصر جديد من السياحة الثقافية المستدامة، التي تربط الماضي بالحاضر وتفتح آفاق المستقبل.
صوت العالم يتحدث مصريًا
الافتتاح العالمي للمتحف المصري الكبير يبث بلغات متعددة، ويعد أحد أكبر الأحداث الثقافية التي تنظمها مصر في القرن الحادي والعشرين.

ومن المقرر أن تنقل الحدث أكثر من 20 قناة دولية، ما يعكس مكانة مصر كمركز إشعاع حضاري يهم العالم كله.
متحف لا يشبه سواه
بعد أكثر من عقدين من التصميم والبناء، يقف المتحف المصري الكبير اليوم كأحد أعظم الصروح المعمارية والثقافية في العالم، يجمع بين عبقرية الماضي وتكنولوجيا الحاضر.
ومهما تغيرت الأجيال، سيبقى هذا الصرح شاهدًا على أن الحضارة المصرية لا تموت، بل تتجدد وتعيد تقديم نفسها للعالم في كل عصر.



