القطاع المصرفي المصري يرسخ ريادته من الشمول المالي للتحول الرقمي

لم يعد القطاع المصرفي المصري مجرد وسيط بين المدخر والمستثمر، بل أصبح أحد الأعمدة الجوهرية التي يُعاد عبرها تشكيل ملامح الاقتصاد الوطني، فمن بين الأزمات والتحديات، خرجت البنوك المصرية لتقود مرحلة جديدة من الوعي الاقتصادي والتنمية المستدامة، لتتحول من مؤسسات تمويلية إلى مؤسسات فكرية وإنتاجية تضع رؤية وتشارك في صناعة القرار الاقتصادي.
جاء مؤتمر «الناس والبنوك 2025» ليرسّخ هذه الحقيقة ويجسدها، لا كمناسبة احتفالية بل كمنصة فكرية واقتصادية ترسم ملامح التحول من اقتصاد يُدار بالسياسات التقليدية إلى اقتصاد يُبنى على المعرفة والرقمنة والشمول المالي، فالكلمات التي صدرت عن مسؤولي البنك المركزي ورؤساء البنوك الكبرى لم تكن تصريحات آنية، بل خريطة طريق تشير إلى أن الإصلاح المالي الذي بدأ قبل أعوام صار اليوم فلسفة تنموية متكاملة، تسعى إلى تحقيق العدالة الاقتصادية عبر أدوات الشمول والتمكين والتكنولوجيا.
وفي هذا السياق، عبّر طارق الخولي نائب محافظ البنك المركزي عن جوهر التحول، موضحًا أن ما تحقق في ملف الشمول المالي لا يُقاس بالأرقام وحدها، بل بتغيّر العلاقة بين المواطن والمؤسسة المالية. فأن تصل نسبة المواطنين الذين يمتلكون حسابات مصرفية إلى 76% من السكان، بعد أن كانت لا تتجاوز 10% قبل عقد، فذلك يعني أن الوعي المالي أصبح جزءًا من البنية الاجتماعية نفسها، وأن الثقة بين المواطن والبنك لم تعد قائمة على الإلزام بل على الاقتناع.
أما الارتفاع اللافت في نسبة السيدات المالكات لحسابات مصرفية والذي تجاوز 24 مليون عميلة بنسبة نمو 300%، فقد شكّل دليلاً على أن التمكين المالي لم يعد شعارًا بل ممارسة واقعية، كما أن الشباب الذين يمثلون أكثر من نصف المتعاملين مع البنوك، باتوا يشكلون القوة الدافعة للاقتصاد الرقمي الذي تعيد مصر بناءه من القاعدة إلى القمة.
ومع هذا التحول، لم يكن تطوير البنية المصرفية مجرد تحديث تقني، بل إعادة هيكلة لمفهوم الخدمة المالية ذاتها. فوجود أكثر من 57 ألف ماكينة صراف آلي، ونحو 70 مليون بطاقة بنكية، و55 مليون محفظة إلكترونية، لا يعني فقط انتشار الوسائل، بل يرمز إلى ولادة ثقافة جديدة تضع التكنولوجيا في خدمة الشمول، وتحول المعاملة المالية إلى تجربة حياتية يومية تلامس كل بيت وكل مواطن.
أما محمد الإتربي، رئيس اتحاد بنوك مصر ورئيس مجلس إدارة البنك الأهلي المصري، فقد قدّم رؤية متكاملة لقطاع تجاوز حدود الصلابة المالية نحو الريادة الإقليمية، مشيرًا إلى أن الأصول المصرفية التي تخطت 23 تريليون جنيه ليست مجرد رقم في ميزان المراجعة، بل انعكاس لاستقرار بنيوي في منظومة باتت قادرة على امتصاص الصدمات دون أن تتوقف عن دعم النمو.
وأكد الإتربي أن البنوك لم تعد تكتفي بتقديم الائتمان، بل تشارك في صياغة السياسات الاقتصادية عبر مبادرات تمويلية موجهة لقطاعات الإنتاج الحقيقي، كما أشار إلى الدور الحيوي لصندوق دعم الجهاز المصرفي الذي يسهم في تعزيز القدرات البشرية وتحديث البنية التكنولوجية، في ظل قيادة رشيدة من البنك المركزي تمزج بين الانضباط النقدي والتحفيز الاقتصادي.
وفي المقابل، أكدت غادة توفيق، وكيل محافظ البنك المركزي للمسؤولية المجتمعية، أن التنمية الحقيقية لا تُقاس بميزان الأرقام فقط، بل بميزان الأثر الإنساني. فالبنوك المصرية التي ضخت أكثر من 3.3 مليار جنيه في مبادرات مجتمعية خلال أقل من عام، لم تكن تمارس عملاً خيرياً، بل تؤسس لرأسمال اجتماعي جديد يُعيد بناء الثقة بين الاقتصاد والمجتمع. لقد أصبحت المسؤولية المجتمعية جزءًا من هوية البنك، وعنصرًا في معادلة القيمة المضافة، إذ لم تعد التنمية المستدامة هامشاً على دفاتر الحسابات، بل بنداً في صميم السياسات المصرفية.
ومن جانبه، تناول هشام عكاشة، رئيس بنك مصر المصري، البعد الأمني في التحول الرقمي، مؤكدًا أن التوسع في الخدمات الرقمية لا ينفصل عن مسؤولية حماية بيانات العملاء ومواجهة أنماط الاحتيال الإلكتروني، مشددًا على أن الثقة هي العملة الأعلى قيمة في السوق المصرفي الحديث. كما أوضح أن البنك الأهلي واصل دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بزيادة تجاوزت 27%، إدراكًا بأن نمو الاقتصاد يبدأ من القاعدة، وأن تمويل فكرة صغيرة قد يكون أكثر أثرًا من إقراض مشروع ضخم.
وفي الرؤية الأشمل، جاءت كلمة الدكتورة رانيا المشاط لتضع الإطار الدولي للتحول المصرفي المصري، مؤكدة أن ثقة مؤسسات التمويل العالمية في البنوك المصرية لم تأتِ صدفة، بل نتيجة مسار طويل من الانضباط المالي والإصلاح المؤسسي، حيث استحوذت البنوك على 42% من التمويلات التنموية الموجهة للقطاع الخاص بإجمالي يتجاوز 16 مليار دولار، وهو ما جعلها القناة الرئيسية لتدفق رؤوس الأموال الأجنبية نحو الاقتصاد الوطني.
لقد كشف مؤتمر «الناس والبنوك 2025» أن مصر لم تعد تتعامل مع القطاع المصرفي كجهاز تابع، بل كعقل مفكر للاقتصاد. فبين الشمول المالي والتحول الرقمي والمسؤولية المجتمعية، تتشكل ملامح نموذج جديد من الرأسمالية الوطنية، تتوازن فيه الأرباح مع الواجب، وتلتقي فيه التقنية مع العدالة، ويتحوّل فيه البنك من مؤسسة مالية إلى شريك تنموي، ومن وسيط إلى صانع.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد تطور في الأداء المصرفي، بل تحول في فلسفة التنمية ذاتها. فمصر تبني اقتصادها الجديد من خلال نظام مصرفي يدرك أن الأرقام بلا إنسان لا تُثمر، وأن التنمية بلا استدامة لا تدوم. ولعل أعظم ما يميز التجربة المصرية في هذا السياق أنها لم تكتفِ بنسخ تجارب الآخرين، بل صاغت نموذجها الخاص الذي يمزج بين الانضباط النقدي، والبعد الاجتماعي، والرؤية الرقمية، في معادلة متفردة تضع الإنسان في قلب الاقتصاد، والاقتصاد في خدمة الإنسان.