عاجل

جيل "زد" هو الجيل الذي قلب موازين القوى وأعاد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المواطن والدولة، وبين الإنسان والعالم. إنه الجيل الذي وُلد بين منتصف التسعينات وبداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، فوجد نفسه في عالم رقمي بالكامل لا يعرف زمناً بلا إنترنت، ولا يتصور حياة بلا تواصل لحظي أو معرفة بلا بحث فوري. لكنه لم يكتفِ بالتكيّف مع هذه التحولات، بل جعل منها وسيلته لتغيير الواقع وكسر احتكار السلطة والمعلومة، وفتح الباب أمام عصر جديد من المواطنة الرقمية والوعي الكوني.

في الماضي كانت المعلومة امتيازاً تحتكره مؤسسات محددة: الدولة، الإعلام الرسمي، الجامعات، ودور النشر. أما اليوم، فقد تحولت المعرفة إلى فضاء مفتوح أمام الجميع. بضغطة زر يستطيع شاب في الدار البيضاء أو القاهرة أو عمّان الوصول إلى مصادر كانت قبل عقدين حكراً على النخبة. هذا التحول ألغى المسافة بين من يملك المعلومة ومن يستهلكها، وبين من يصنع الخطاب العام ومن يتلقاه. لقد كسر جيل زد احتكار الحقيقة، وصار قادراً على مساءلة النخب السياسية والدينية والثقافية، وصياغة رواياته الخاصة للواقع. لم يعد الجمهور متلقياً سلبياً، بل فاعلاً مؤثراً يصنع المحتوى وينشره ويقود النقاشات العامة في الفضاء الرقمي. لكن هذه القوة الجديدة ليست بلا ثمن، فكما أن المعرفة صارت متاحة، صارت الزيف أيضاً أكثر انتشاراً، مما يجعل الوعي النقدي ضرورة لا ترفاً.

أما الانتماء، فقد أعاد جيل زد تعريفه من جديد. لم يعد الانتماء مقصوراً على الحدود الجغرافية أو الهوية القومية الضيقة، بل صار انتماءً مفتوحاً على العالم. هذا الجيل يعيش داخل شبكة من الانتماءات المتقاطعة، فهو عربي ومسلم أو إفريقي أو آسيوي، لكنه في الوقت نفسه مواطن رقمي عالمي. يهتم بقضايا البيئة والعدالة وحقوق الإنسان أينما وُجدت، دون أن يشعر بأنها تخص الآخرين وحدهم. إنه وعي كوني جديد يرى أن مصير البشرية مترابط، وأن الظلم في أي مكان يهدد العدالة في كل مكان. ومن هنا ينشأ نوع جديد من الهوية المرنة التي تجمع بين الجذور والانفتاح، وبين الخصوصية والتفاعل مع الآخر.

جيل زد أيضاً هو أول جيل يمارس المواطنة الرقمية بوعي وفاعلية. لم يعد الإنترنت بالنسبة له مجرد وسيلة للترفيه أو التواصل، بل ساحة للتعبير والمشاركة والتأثير. عبر الوسوم والمبادرات الرقمية، صار قادراً على تحريك الرأي العام حول قضايا مصيرية مثل التغير المناخي، المساواة بين الجنسين، والعدالة الاجتماعية. لقد أظهر هذا الجيل قدرة فريدة على التحشيد الرقمي، فبوسائل بسيطة ومبادرات جماعية، استطاع أن يحوّل العالم الافتراضي إلى قوة ضغط حقيقية على الواقع. من خلال هاتفه الذكي، صار الشاب العادي قادراً على إيصال صوته إلى العالم، والمطالبة بالتغيير بطرق سلمية خلاقة. بالنسبة له، النقر يمكن أن يكون بديلاً عن الطلقة، والوعي الجمعي يمكن أن يصنع واقعا من دون عنف.

لكن جيل زد لا يعيش في عالم مثالي، فهو يواجه تحديات لا تقل خطورة عن إنجازاته. فالتدفق الهائل للمعلومات قد يسبب إرهاقاً معرفياً، ويؤدي إلى سطحية في الفهم أو تشتت في الانتباه. كما أن خوارزميات المنصات الرقمية قد تقيّد حريته دون أن يدري، إذ تقدم له محتوى يوافق ميوله وتغلق عليه دائرة ضيقة من الرأي، فتحد من تنوع المعرفة وتغذي الأوهام. كما أن العلاقات الافتراضية لا تعوّض دوماً التفاعل الإنساني الحقيقي، مما يخلق شعوراً بالوحدة رغم الاتصال الدائم، وبالعزلة رغم الانفتاح.

ومع ذلك، فإن قوة هذا الجيل تكمن في قدرته على التكيف وعلى تحويل أدوات العصر إلى وسيلة للتحرر والإبداع. لذلك، فإن دعم جيل زد لا يكون بتقييده أو انتقاده من منظور الأجيال السابقة، بل بفهم لغته الجديدة وإشراكه في القرار وتوفير مساحات حرة للتعبير المسؤول. يحتاج هذا الجيل إلى مؤسسات تعليمية وثقافية مرنة ترافق إيقاعه السريع، وتُنمّي مهاراته النقدية والإبداعية، بدلاً من فرض قوالب فكرية قديمة لا تعبّر عن طموحاته.

إن جيل زد ليس أزمة، بل فرصة. هو جيل يعيد رسم خريطة القوة والمعرفة والانتماء، ويفتح الباب لعصر جديد من المواطنة الرقمية والوعي الإنساني المشترك. جيل يسعى إلى أن يكون شريكاً لا تابعاً، وصوتاً لا صدى، وعقلاً حراً في عالم مترابط يتجاوز الحدود والجدران. إن فهم هذا الجيل ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية، لأن مستقبل المجتمعات سيتشكل على إيقاعه، ولأن وعيه الجديد سيحدد ملامح العالم القادم: أكثر حرية، وأكثر عدلاً، وأكثر إنسانية.

تم نسخ الرابط