تمثل اتفاقية شرم الشيخ محطة مفصلية في مسار الشرق الأوسط، ليس فقط لأنها تسعى إلى تثبيت الهدنة وإنهاء دوامة العنف في غزة، بل لأنها تعيد ترتيب أوراق الإقليم سياسيًا واقتصاديًا على نحو غير مسبوق.
ولم تكن مصر بعيدة يومًا عن هذا الملف، بل كانت ولا تزال الركيزة الأساسية في دعم الشعب الفلسطيني، سواء من خلال إدارة المساعدات الإنسانية والإغاثية أثناء الحرب، أو عبر جهودها الدبلوماسية المستمرة لوقف التصعيد وتهيئة المناخ لإعادة الإعمار.
ومع توقيع الاتفاق، تتحول مصر من وسيط للسلام إلى شريك فاعل في مرحلة البناء والتنمية، وهو ما يحمل انعكاسات اقتصادية عميقة تمتد من الداخل المصري إلى الإقليم بأسره.
تعزيز المكانة الجيواقتصادية لمصر
نجاح اتفاقية شرم الشيخ يعيد تثبيت موقع مصر كمركز استقرار سياسي واقتصادي في الشرق الأوسط. هذا الدور لا ينعكس فقط على مكانتها الدبلوماسية، بل يُترجم مباشرة في صورة ثقة متزايدة من المؤسسات المالية والمستثمرين الدوليين.
فمصر التي استطاعت أن تدير واحدًا من أعقد الملفات الإقليمية، تقدم نفسها الآن كـبوابة آمنة للاستثمار والتجارة، خصوصًا في منطقة تعاني من اضطرابات ممتدة منذ عقود.
انتعاش قناة السويس وحركة التجارة
الاستقرار الإقليمي الناتج عن الاتفاق يُعيد الحيوية لممر قناة السويس، الذي يُعد شريان التجارة العالمية الرئيسي.
مع تراجع المخاطر الأمنية في البحر الأحمر، يُتوقع أن تستعيد القناة معدلات عبور مرتفعة بعد شهور من التباطؤ بسبب التوترات الإقليمية.
هذا الانتعاش لا يقتصر على زيادة إيرادات القناة فحسب، بل يمتد إلى تحسن ميزان المدفوعات وارتفاع الاحتياطي النقدي، ما ينعكس على قوة الجنيه المصري واستقرار السوق المالية.
مصر بوابة إعادة إعمار غزة
تُعد مرحلة ما بعد الاتفاق هي الأكثر حساسية اقتصاديًا، إذ تنتقل مصر من دور الوساطة إلى دور القيادة في عمليات إعادة الإعمار.
القاهرة تمتلك بنية تحتية قوية على الحدود مع غزة، وشركات هندسية ومقاولات ذات خبرة عالية، ما يؤهلها لتكون المحور اللوجستي والإداري لإعادة بناء القطاع.
هذا الدور سيخلق فرصًا استثمارية وتشغيلية واسعة للشركات المصرية في مجالات البناء، والطاقة، والنقل، والمواد الخام، إلى جانب تدفق مساعدات وتمويلات دولية تمر عبر الأراضي المصرية، وهو ما سيضخ سيولة بالعملة الأجنبية في الاقتصاد المحلي.
استعادة الزخم في السياحة
شرم الشيخ، التي كانت مسرحًا لتوقيع الاتفاق، ليست مجرد مدينة سياحية، بل رمز لعودة الأمن والانفتاح في مصر.
الاتفاق يُرسل إشارة طمأنينة قوية للأسواق والسياح العالميين بأن مصر ما زالت وجهة آمنة ومستقرة.
توقعات القطاع تشير إلى زيادة في أعداد السياح الأوروبيين والروس خلال الموسم المقبل، مما يعني تدفقات نقدية إضافية وتشغيل آلاف العاملين، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد المصري إلى مصادر عملة صعبة مستدامة.
تعزيز بيئة الاستثمار وتحسين التصنيف الائتماني
هدوء الأوضاع الإقليمية سيُترجم مباشرة إلى تراجع في مؤشرات المخاطر الجيوسياسية الخاصة بمصر، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تحسن تصنيفها الائتماني لدى المؤسسات الدولية.
تحسن التصنيف يعني خفض تكلفة الاقتراض الخارجي، وتسهيل جذب رؤوس أموال جديدة، لا سيما في قطاعات الطاقة الخضراء، واللوجستيات، والصناعات التصديرية التي تسعى الحكومة لدعمها ضمن رؤية مصر 2030.
توجيه الموارد للتنمية بدلًا من الأزمات
على مدار السنوات الماضية، تحملت مصر تكاليف ضخمة بسبب توتر الأوضاع على حدودها الشرقية ، من الإنفاق الأمني إلى المساعدات الإنسانية.
الاتفاقية تتيح فرصة لإعادة توجيه تلك الموارد نحو مشروعات التنمية الداخلية، وتعزيز الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية، بما يخلق أثرًا مستدامًا على النمو الاقتصادي.
فى الختام ، اتفاقية شرم الشيخ لم تكن مجرد تتويج لمسار دبلوماسي ناجح، بل إعلانًا واضحًا لعودة مصر إلى مركز الثقل الإقليمي.
فالقاهرة، التي قادت الجهود لوقف نزيف الدم في غزة، لم تكتفِ بالدعوة إلى السلام، بل فرضت منهجًا متوازنًا يجمع بين الإنسانية والسياسة، بين القوة والاتزان، لتؤكد مجددًا أنها القوة العاقلة في محيطٍ مضطرب، هو الضامن الحقيقي لاستقرار الإقليم.
وفي بعدها الاقتصادي، لم تكن الاتفاقية حدثًا سياسيًا عابرًا، بل تحولًا استراتيجيًا في مسار الاقتصاد المصري، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستقرار الإقليمي والنمو المتوازن.
لقد أثبتت مصر أنها ليست مجرد وسيط في الأزمات، بل قوة إقليمية قادرة على تحويل الصراع إلى فرصة للتنمية. وإذا ما نجحت القاهرة في البناء على هذا الاتفاق بخطوات اقتصادية مدروسة ، عبر استثمار دورها في إعادة الإعمار، وتنشيط التجارة والسياحة، وجذب الاستثمارات ، فإن اتفاقية شرم الشيخ ستسجل في التاريخ كـنقطة انطلاق جديدة للاقتصاد المصري، وإعلانٍ لعودة الدور المصري الريادي سياسيًا واقتصاديًا في محيطه العربي والدولي.