ليست كل الرحلات سواء، فبعضها يترك في القلب ندوبًا، وأخرى تخلّف وراءها ذكريات عابرة، لكن هناك رحلات تُكتب بالروح، وتحفر في الوجدان أثرًا لا يُمحى.. هي الرحلات التي تُلامس السماء، وتقترب من مواطن الطهر والنور، وتُذيب صخب الحياة في طمأنينة الإيمان.
حين تطأ قدماك مدينة رسول الله ﷺ، تشعر وكأنك قد عدت إلى حضنٍ دافئ طال شوقك إليه. المدينة المنورة ليست فقط أرضًا مباركة، بل هي سكينة تمشي على الأرض، وطمأنينة تتنفسها القلوب. زيارة المسجد النبوي الشريف، والوقوف أمام الروضة الشريفة، تزرع فيك رهبةً ممزوجة بمحبة، ودموعًا لا تعرف إن كانت من الفرح أم الخشوع.
هناك، عند قبر النبي المصطفى ﷺ، تتسابق الكلمات لتخرج، ثم تخونك، فيحلّ الصمت أجمل من أي دعاء. ويهمس القلب وحده: "السلام عليك يا رسول الله".. هي لحظة لا توصف، كأن الزمان يهدأ، والمكان يحتضنك، والروح تُغسَل من غبار الدنيا.
وبعد لحظات السكينة، تشتد اللهفة للقاء بيت الله الحرام. تنتقل الخطى إلى مكة المكرمة، حيث الكعبة المشرفة، حيث العظمة والخشوع والرهبة التي تعجز الكلمات عن احتوائها. لحظة رؤية الكعبة للمرة الأولى تبقى محفورة في القلب، وكأنها ميلاد جديد.
في الطواف والسعي، تذوب الفروق بين البشر، وتتوحد القلوب في مناجاة واحدة: "يا رب.. اغفر، واهدِ، وارزق، واستر في الدنيا والآخرة". لا شيء يشبه الدعاء في حضرة البيت العتيق، حيث تُرفَع الأيادي، وتُسكَب الدموع، وتُعانق الأرواح أبواب السماء.
العُمرة ليست فقط نسكًا، بل تطهير، وتجديد للعهد، وسجدة طويلة تُودِع فيها كل ما أثقل روحك. هي تضرعٌ لا ينتهي، بأن يغفر الله الذنوب، ويهدينا إلى سواء السبيل، ويرزقنا من حيث لا نحتسب، ويسترنا بستره الجميل في كل حين.
إنها رحلة للداخل قبل أن تكون للخارج.. رحلة تصالح مع النفس، وعودة إلى الطريق، وتذكير بأن الدنيا محطة، وأن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله، ولا يرتوي إلا بالقرب من نور السماء.