عاجل

في عام 2025، اتجهت الأنظار مجددًا إلى منطقة الشرق الأوسط، بعد اندلاع صراع عسكري واسع بين إسرائيل وإيران، صراعٌ طالما توقّعه الخبراء واستبعدته السياسات الواقعية خوفًا من تداعياته لكن ما ميّز هذه الحرب منذ لحظاتها الأولى لم يكن فقط قوتها التدميرية، بل الطريقة التي تشكّلت بها ملامحها على الأرض حربٌ بدأت بين دولتين، ثم سرعان ما اتسعت لتشمل أطرافًا غير نظامية، وفصائل مسلحة، وتحركات إقليمية موزعة على عدة جبهات، ما أعاد إلى السطح مجددًا جدلية "الحرب بالوكالة" في مقابل "الحرب المباشرة"، وفرض ضرورة إعادة تقييم طبيعة الحروب الحديثة في الشرق الأوسط.
في بداية المواجهة، كان واضحًا أن إسرائيل تخوض المعركة من موقع واضح، مستخدمةً قدراتها الجوية والتقنية واللوجستية المباشرة في المقابل، ورغم أن إيران أعلنت عن مسؤوليتها في بعض الضربات الصاروخية، فإن الجزء الأكبر من الهجمات المضادة جاء على يد حلفائها في المنطقة، وهو ما يعكس اعتمادًا إيرانيًا ممنهجًا على منظومة وكلاء إقليميين من حزب الله في لبنان، إلى الفصائل الشيعية في العراق، إلى الحوثيين في اليمن، إلى جماعات مقاومة فلسطينية، كلّها شاركت في المعركة ضمن استراتيجية متماسكة تُعرف منذ سنوات بـ"محور المقاومة"، لكنها في هذه الحرب أخذت طابعًا جديدًا من التنسيق والفعالية.
ولعل هذا النمط من المواجهة أعاد طرح التساؤل هل نحن بصدد حرب بالوكالة التقليدية، أم أمام تطور جديد في شكلها ومضمونها فالوكلاء هذه المرة لم يكونوا مجرد أدوات ضغط محدودة التأثير كما في حروب سابقة، بل كانوا أطرافًا فاعلة، يملكون القدرة على تغيير المعادلة الميدانية، ويُقاتلون ضمن أهداف استراتيجية تتقاطع مع الدولة الراعية، لكنهم لا يتبعون لها إداريًا بشكل مباشر هذا النموذج المعقّد جعل من الحرب معقدة التوصيف، فلا هي مواجهة شاملة بين دولتين، ولا هي مجرد عمليات عبر وكلاء، بل مزيجٌ مركّب من الاثنين، يمكن تسميته بـ"الحرب المركبة بالنيابة".
وقد تجلى هذا التعقيد حين فتحت عدة جبهات في آنٍ واحد ففي الشمال، نفذ حزب الله عمليات نوعية استهدفت العمق الإسرائيلي، ليس فقط بالصواريخ، بل بعمليات تسلل برية محدودة في الجليل وفي الجنوب، تصاعدت هجمات فصائل فلسطينية انطلقت من غزة والضفة، بينما نفذ الحوثيون في اليمن ضربات بطائرات مسيّرة طالت ميناء إيلات، وأُعلنت مسؤولية فصائل عراقية عن قصف قواعد أمريكية في الأنبارهذا التمدد الجغرافي للحرب أعطى انطباعًا أن المواجهة خرجت عن كونها صراعًا ثنائيًا، وتحولت إلى حرب إقليمية عبر أدوات مختلفة.
لكن في الوقت نفسه، لم تكن هذه الوحدات المقاتلة تعمل بطريقة عشوائية أو مستقلة، بل ضمن تنسيق إقليمي واسع تقوده إيران من الخلف، وهو ما يُعيد مفهوم "الوكالة" إلى الواجهة، وإن كان بشكل أكثر تطورًا من الصورة النمطية القديمة التي ترى في الحروب بالوكالة مجرد صراعات بالإنابة تنشب بين قوى عظمى على أراضي دول ثالثة فاليوم، الوكيل أصبح أكثر فاعلية واحترافًا، يمتلك ترسانة عسكرية، وخبرات ميدانية، وشبكات دعم محلية، بل وأهدافًا سياسية خاصة، ما يجعل العلاقة بينه وبين الراعي علاقة شراكة أكثر من كونها تبعية.
من ناحية أخرى، شهدت هذه الحرب أيضًا تحولًا في دور الولايات المتحدة، التي لم تكن في خط المواجهة، لكنها لم تغب عن المشهد فقد لعبت دورًا مركزيًا في تمويل ودعم إسرائيل لوجستيًا ومعلوماتيًا، دون الانخراط المباشر في القتال، وهو ما يجعل منها بدورها طرفًا غير معلن في الحرب، يدير أدواته عبر "شبه وكلاء". بل إن بعض التحليلات رأت في الدعم الأمريكي المطلق لتل أبيب جزءًا من منظومة مواجهة إقليمية أكبر، تستند إلى التحالفات غير الرسمية التي نشأت بعد اتفاقات التطبيع الأخيرة، والتي مكّنت إسرائيل من توسيع هامش تحركها دون قلق كبير من الردود الإقليمية.
كل هذا يجعل من حرب 2025 نموذجًا جديدًا في فهم الحروب المعاصرة في الشرق الأوسط، فهي لم تكن حربًا مباشرة بالكامل، لكنها أيضًا تجاوزت حدود الحروب التقليدية بالوكالة ما نراه هنا هو حالة هجينة من الحرب، تتضمن أطرافًا نظامية وغير نظامية، تتوزع على عدة مسارات جغرافية، وتدار بعقلية استراتيجية لا تقتصر على حسابات الأرض، بل تشمل الدعاية، والحرب السيبرانية، والمواقف السياسية، والتحركات الدبلوماسية.
وهو ما يفرض إعادة تقييم حقيقية لنظرية الحرب بالوكالة فبينما كان يُنظر إليها في العقود الماضية كأداة بديلة تلجأ إليها الدول لتجنب التورط المباشر، فإنها اليوم أصبحت شكلًا رئيسيًا من أشكال الحروب، تُبنى لها العقائد القتالية، وتُرصد لها الميزانيات، وتُخطط لها التحالفات. بل أن الوكيل اليوم لم يعد ضعيفًا أو تابعًا، بل فاعلًا رئيسيًا يمكنه فرض شروطه على الدولة الراعية أو تعديل مسارات الحرب بما يخدم مصالحه الخاصة.
كما أن هذه الحرب أظهرت حدود النمط التقليدي من الردع إذ لم تنجح القوة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة في ردع وكلاء إيران، بل إن هؤلاء الأطراف تمكنوا من فرض كلفة استراتيجية على تل أبيب، وإرباك حساباتها، وهو ما يُعيد فتح النقاش حول مدى نجاح العقيدة العسكرية في مواجهة الجماعات غير النظامية المدعومة خارجيًا.
ومع نهاية الحرب، التي لم تُحسم بالكامل لصالح أي طرف، بقيت الأسئلة مفتوحة هل خاضت إسرائيل حربًا مع إيران فعلًا، أم مع وكلائها وهل نجحت إيران في استخدام هؤلاء الوكلاء كأدوات للردع وتوسيع النفوذ، أم أنها أصبحت مدينة لهم بانتصار لم تحققه بنفسها وهل باتت الحرب بالوكالة خيارًا استراتيجيًا دائمًا، أم مجرد مرحلة انتقالية نحو مواجهة شاملة محتملة.
ما جرى في عام 2025 لم يكن فقط صراعًا مسلحًا، بل لحظة فارقة في فهم بنية الحروب القادمة، التي لا تُخاض في ميدان واحد، ولا تدار من طرفين فقط، بل تشارك فيها أطراف متعددة، تُغيّر قواعد الاشتباك وتُعيد صياغة مفاهيم السيادة، والتدخل، والانتصار، والهزيمة. وربما تكون حرب 2025 هي الدرس الأول في عصر ما بعد الحروب التقليدية، حيث لا أحد يقاتل وحده، ولا أحد يُعلن الحرب بصوته، بل تُدار الحروب بهدوء، وتنفجر بعنف، بأيدٍ مختلفة، في ساحات متعددة، تحت عباءة الوكالة، ولكن لحسابات أكثر تعقيدًا بكثير.

تم نسخ الرابط