عاجل

يشهد العالم تطورًا متسارعًا في مجال الذكاء الاصطناعي حتى بات يؤثر في مختلف جوانب الحياة اليومية وصولًا إلى مجالات لم تكن تقليديًا خاضعة للتكنولوجيا مثل صناعة القرار العام والتشريع ويمثل هذا التطور تحديًا حقيقيًا للدساتير والنظم القانونية التقليدية التي لم تكن مصممة للتعامل مع كيان غير بشري يمكنه التحليل والمعالجة واتخاذ القرارات بناءً على خوارزميات مستقلة ومع صعود دور الذكاء الاصطناعي في المجالات التنفيذية والإدارية تثار تساؤلات ملحة حول إمكانية امتداد هذا الدور إلى المجال التشريعي خاصة في مصر حيث تسعى الدولة إلى تطوير بنيتها القانونية والرقمية بشكل متوازٍ مما يفرض علينا ضرورة استشراف الأطر الدستورية التي يمكن أن تنظم علاقة الذكاء الاصطناعي بصناعة التشريع في المستقبل القريب في السياق المصري تعد السلطة التشريعية إحدى السلطات الدستورية الثلاث والتي تمثل صوت الإرادة الشعبية من خلال ممثلي الأمة المنتخبين ويتجسد دورها في سن القوانين التي تنظم حياة الأفراد والمجتمع وتضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتستند هذه السلطة إلى مبدأ السيادة الشعبية والتمثيل الديمقراطي وهنا تكمن الإشكالية الكبرى إذ أن إدخال الذكاء الاصطناعي في عملية التشريع قد يتعارض من حيث الأصل مع فلسفة التمثيل البرلماني القائم على الإرادة الإنسانية الحرة كما أن القوانين ليست مجرد معادلات منطقية أو تنظيمات إجرائية بل هي تعبير عن قيم اجتماعية وسياسية وأخلاقية لا يمكن اختزالها في أنظمة رقمية ومع ذلك فإن الذكاء الاصطناعي بات يمتلك من القدرة ما يجعله عنصرًا مساعدًا في العملية التشريعية بدءًا من تحليل النصوص المقارنة وتقييم الأثر التشريعي ووصولًا إلى صياغة اقتراحات أولية لقوانين جديدة بناءً على بيانات ضخمة ومؤشرات مجتمعية حقيقية وهو ما قد يساهم في تسريع الأداء البرلماني وتحسين جودة التشريع وتقليل التكرار والتعارض القانوني وعلى الرغم من أن الدستور المصري لم يتضمن نصوصًا صريحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي إلا أن بعض المواد يمكن أن تُقرأ تمهيدًا لتقبل مثل هذا التطور المستقبلي فمثلًا تنص المادة الرابعة من الدستور على أن السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات وتمارس السيادة على الوجه الذي يرسمه الدستور ومن ثم فإن أي دور مستقبلي للذكاء الاصطناعي في التشريع يجب أن يكون خاضعًا لرقابة الشعب وممثليه ولا يجوز له أن يتجاوز حدود المساعدة التقنية كما تنص المادة 186 على استقلال السلطة التشريعية وعدم جواز تدخل أي سلطة أخرى في اختصاصاتها وهو ما يوجب أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة ضمن المنظومة التشريعية وليس بديلًا عن السلطة التشريعية أو عن مبدأ التمثيل الديمقراطي كذلك تثير مسألة استخدام الذكاء الاصطناعي في التشريع إشكالية المسؤولية القانونية فهل يمكن مساءلة خوارزمية قامت بصياغة اقتراح قانون أدى إلى خلل في تطبيقه وهل تتحمل السلطة التشريعية المسؤولية كاملة عن نتائج قراراتها إذا كانت قد اعتمدت على الذكاء الاصطناعي في تحليل المعطيات أم يجب تعديل القواعد القانونية لتشمل المسؤولية الرقمية ويبدو أن المستقبل القريب سيفرض علينا إعادة صياغة قواعد المشروعية والرقابة التشريعية لتواكب واقعًا جديدًا تلعب فيه الآلة دورًا متزايدًا في إدارة الشأن العام ولذا فإن أحد المقترحات الدستورية المستقبلية يتمثل في إنشاء هيئة وطنية مستقلة للحوكمة التشريعية الرقمية تكون مهمتها تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في الشؤون التشريعية ووضع الضوابط القانونية والأخلاقية لهذا الاستخدام وضمان توافقه مع المبادئ الدستورية وعلى صعيد آخر فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في العملية التشريعية قد يفتح الباب أمام مشاركة مجتمعية أوسع من خلال تحليل رغبات المواطنين عبر بيانات التواصل الاجتماعي والاستطلاعات الرقمية ما قد يؤدي إلى ما يمكن تسميته "التشريع التشاركي الرقمي" وهو ما يتطلب بالضرورة إعادة النظر في المفاهيم الدستورية التقليدية للمشاركة السياسية والمواطنة والشفافية.
وختامًا فإن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل الإرادة البشرية في صناعة التشريع لكنه قد يتحول إلى شريك عقلاني موضوعي يساعد على بناء منظومة قانونية أكثر كفاءة وعدالة وتكافؤًا وهذا يتطلب من المشرّع المصري تبني رؤية استباقية تبدأ من النصوص الدستورية وتنتهي بوضع بنية قانونية متكاملة تؤسس لمفهوم جديد من المشروعية الرقمية والتشريع الذكي دون الإخلال بجوهر السيادة الشعبية واستقلال السلطة التشريعية.

تم نسخ الرابط