عاجل

من غزة تأتي الأغاني، ومن القاهرة يعلو الصوت الهادئ للعقل والحكمة. 
تداول نشطاء مقاطع لأطفال في أحد مطاعم غزة يرددون أغنية "تسلم الأيادي"ويرقصون بالأعلام المصرية والفلسطينية، فيما ظهرت في سماء شرم الشيخ طائرتان تحملان العلمين معًا؛ مشهد بسيط لكنه يلخص القصة كلها ، أن ما يجمع مصر بفلسطين ليس حدودًا،  بل دعم غير محدود  وتاريخ لا ينكسر.
ولخصتها الشاعرة الفلسطينية الشابة ميس الهادي : "غزة تنفّست نجاة، و مصر كانت الرئة ،امتنان أبدي"

من بين كل ما شهدته القضية الفلسطينية من مآسٍ، لم يكن هناك ما هو أخطر من مشروع تهجير سكان غزة، ذلك المشروع الذي أعاد إلى الذاكرة كوابيس النكبة والنزوح، وهدد بتصفية القضية من جذورها. 
لم يكن التهجير إجراءً إنسانيًا أو حلًا مؤقتًا كما حاول البعض تصويره، بل كان مشروعًا سياسيًا متكاملًا يهدف إلى تفريغ الأرض من أصحابها وتحويل الصراع من قضية وطن إلى قضية لاجئين. ومصر، التي حملت فلسطين في وجدانها وفي عقيدتها الأمنية منذ 1948، كانت أول من أدرك أن تنفيذ هذا المشروع يهدد وجود "فلسطين"، و استقرار المنطقة بأكملها.

منذ اللحظة الأولى، كانت خطة الشرق الأوسط الجديد الزريعة التي تتيح لهم تنفيذ مخطط التهجير ، ووقفت ثورة ٣٠ يونيو عقرة أمام هذا المخطط الذي اعادته أحداث ٧ اكتوبر ٢٣ ، كانت القاهرة مستعدة  وأعلنتها بوضوح أن أي محاولة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم تمس بالأمن القومي المصري وتعد خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه. لم يكن هذا الموقف مجرد تصريح سياسي، بل تعبيرًا عن إرادة دولة كاملة — من الرئاسة إلى الخارجية إلى المؤسسة العسكرية — اتفقت على موقف واحد: لا تهجير، لا نقل، لا تفريغ للأرض. 
رفضت مصر أي محاولات للضغط أو الإغراء لاقتصادي او التهديد والابتزاز السياسي ، بل اعتذرت عن زيارة كانت مقررة إلى واشنطن لتجنب أي موقف يستغل أو يفسر كقبول ضمني بالمخطط .
في الكواليس، خاضت القاهرة واحدة من أعقد معاركها الدبلوماسية باستخدام قوي الدولة الشاملة ، مستندة علي إرث حضاري من المفاوضات والمواجهات ، تواصلت مع واشنطن وتل أبيب والعواصم الأوروبية  في قلبها فرنسا وانجلترا ، لتوضح أن خطة التهجير ليست حلاً، بل قنبلة تهدد استقرار الإقليم لعقود، دعت إلى اجتماع عربي طارئ لتوحيد الموقف وطرحت رؤية بديلة لإعادة إعمار غزة من الداخل، تضمن بقاء الناس في أرضهم وتؤمن مناطق آمنة مؤقتة داخل القطاع. 
وفي الوقت ذاته، عملت على إعادة ترتيب المشهد الإقليمي بذكاء نادر، واعادت فتح قنوات تواصل مباشرة مع قطر وتركيا، ليس من باب المجاملة السياسية، بل من باب القيادة الواعية التي تعرف متى تحيد الخلافات لتمنع الانفجار .
ومع الوقت، اكتشفت تلك العواصم نزاهة الموقف المصري واستقلاله، وأدركت أن القاهرة وحدها تملك المفاتيح الحقيقية لوقف الطوفان. تحول التنسيق الثلاثي إلى ركيزة أساسية في الجهود العربية، وأصبحت الرؤية المصرية — الواقعية والعادلة — هي القاعدة الوحيدة المقبولة دوليًا لأي تسوية أو إعادة إعمار.

وفي خضم هذا التحرك، واجهت  القيادة المصرية محاولات منظمة للإساءة إلى دورها، عبر حملات إلكترونية ووقفات أمام السفارات المصرية في الخارج تستهدف التشكيك في نواياها وتحميلها مسؤوليات زائفة. 
ورغم ذلك، التزمت القاهرة بالصبر وضبط النفس، واختارت الرد بالفعل لا بالكلمة. لم تنجر إلى المهاترات، لأنها كانت تدرك أن الهجوم على مصر ليس سوى محاولة لتشويه الموقف العربي الوحيد الذي وقف في وجه مشروع التهجير بصلابة وثبات.
وفي موقف يعكس رؤية سياسية واقعية ، انحازت مصر الي الدور الأمريكي في ظل تراجع  لافت لأي ظهور مؤثر  لقوي عظمي أخري عن التدخل لصالح حرب الابادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة ، خاطبت مصر في الرئيس الأمريكي ترامب سعيه للحلول الناجزة ، رغبته أن يذكره التاريخ كمصلح ورجل سلام ، فقدمت له الحلول العملية ، أضاءت له الطريق ليخطو نحو التنفيذ بقوة قرارات نافذة أجبرت الجانب الاسرائيلي علي الجلوس علي مائدة شرم الشيخ للتفاوض.
لم تكن هذه الصورة لتكتمل دون تماسك الداخل  والذي ظهر عندما عبر الشعب المصري عن وعيه الوطني بصورة تليق بتاريخه، فكانت مشاهد التضامن الشعبي مع غزة مزيجًا من الإحساس بالمسؤولية والكرامة. من الأزهر إلى الكنيسة، ومن الإعلام إلى المجتمع المدني، ارتفعت الأصوات المصرية لتقول إن فلسطين ليست جارة، بل جزء من الضمير المصري والعربي ، توافدت المساعدات وتم اظهار موقفنا الراسخ أمام شاشات العالم وقياداته ،وعكس توحد الجبهة الداخلية رفضاً للتهجير مرحلة  متقدمة من الوعي الفطري الذي يظهر معدن الشخصية المصرية عند التعرض لخطر وجودي .
هكذا، انتصرت القاهرة بإرثها السياسي والدبلوماسي وبقوة ردعها العسكري الذي سمح للقيادة ان تعلنها ضمناً مرة وصراحة مرات" محدش يقدر علي مصر ". 
أسقطت مشروع التهجير، وأعادت ضبط ميزان القوى في المنطقة، وأثبتت أن القيادة لا تقاس بما يقال في العناوين بل بما يتحقق على الأرض. كان ذلك انتصارًا استراتيجيًا هادئًا، لكنه غير مسار الأحداث وأعاد للقضية الفلسطينية بعدها الحقيقي كقضية تحرر وكرامة لا قضية نزوح وشتات.
استخدمت أدواتها السياسية  الفاعلة بلغة المصالح المشتركة للتنسيق مع  الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط ، و دعمت  مسار  الحل الأمريكي ، وأعادت تلك المفاوضات ل" ترامب" الأمل في نوبل للسلام ، وعززت مكانة مصر الاقليمية، لكن الأهم منحت القضية الفلسطينية قبلة الحياة التي أعادتها  بعد موت محقق .
اليوم، حين تهتف غزة لمصر، وحين ترفرف الأعلام معًا في  سماء  شرم الشيخ، يدرك الجميع أن هذا ليس مشهدًا عابرًا، بل خلاصة مسار طويل من الوعي والمواقف الصلبة. 
ويظل أكتوبر النصر شاهدا علي نتيجة تؤكد  ان حين تصمد مصر، تسقط المؤامرة، وحين تقول القاهرة كلمتها، يسمعها العالم.

تم نسخ الرابط