تُثبت قراراتُه المتوالية والمدروسة؛ للنهوض بقطاع ماسبيرو، وعودتِه كسابق عهده حضانة لإبداع القوى الناعمة، وحراكها الثقافي والفكري، أنَّ اختياره رئيسا للهيئة الوطنية للإعلام، هو اختيارٌ صادفَ أهله، جاء عن جدارة واستحقاق . وليس من نافلة القول أنّه يدعم هذا الاختيار تاريخٌ حافلٌ للرجل في بلاط صاحبة الجلالة، أثرى خلاله المكتبة السياسية والصحفية بمقالات، امتازت بسلاسة الأسلوب وعمق الفكرة وغزارة المحتوى، وهو ما يؤكد أنَّه كاتبٌ محترف، أو ـ إن جاز التعبير ـ فقل (صنيعي)، لامست مفرداتُه شِغاف القلب، وتسللت تحليلاتُه لموطن الداء، فأحالت الضعف إلى قوة، والمرضَ إلى عافية، وصارت تطلعاتُه وتكهناتُه القائمة على دراسة عميقة حقائق، تراها العين، ويأنس لها الفؤاد، فاستحق وصف (فولتير الثورة المصرية)، التي أزاحت عنّا حقبة زمنية عصيبة .
لم تقل جهود المسلماني في قطاع الفضائيات عنها في مجال الصحافة، فيؤكد برنامجه المميّز (الطبعة الأولى)، الذي امتاز فيه بحضوره السخي، ونبرته الهادئة، وتحليلاته العميقة، أنّه لم يكن أبدا ظاهرة (حنجورية) كآخرين، امتطوا الصوت العالي؛ للوصول لمآرب رخيصة، تحققت على أشلاء الضحايا والكادحين من أبناء هذا الشعب !
الكاتب الكبير أحمد المسلماني، جمعتنا سويا مؤسسة الأهرام العريقة، ولم ألتقه، ولو مرة واحدة، لكنني استعضتُ عن ذلك بقراءة مقالاته، والاستئناس بتحليلاته، والإذعان لاستنتاجاته المبنيّة على أسس عقلية، ومنطق سليم .
في حياة المسلماني محطاتٌ تُجبرُك على احترامه، أولها (العصامية)، إذ اعتمد فيما حققه من نجاح على ذاته، وإمكاناته، ولم يبحث - كغيره من أنصاف أو معدومي الموهبة - عمن ينطلق بهم كسرعة الصاروخ، والنتيجة ما نعانيه من ركامٍ من الغوغائية والفوضى بالفضائيات، التي يفتقر كثيرٌ ممن يبثون بها للثقافة وحسن الطلّة، فكان الله جار المشاهد المظلوم !
المحطة الثانية، هي الإرادة، والسعي المستميت للوصول للهدف، دون امتطاء وسائل رخيصة، بل اعتمد في رحلة كفاحه علي موهبته وعقليته الفذّة، التي كتبت له التفوق منذ نعومة أظفاره، والاحتفاء والتكريم في أكثر من مناسبة .
لم أقصد مما أكتب أن أنال رضا أحد، فوالله لم يكن هذا أسلوبي يوما، ولنّ يكون أبدا - بعون الله - ولكني أردتُ شكر واحد ممن مدّوا يد العون، لإقاقة بلدنا من عثرتها، وهذا ما يفعله المسلماني ـ العاشق لكلِّ جميل ـ في قطاع ماسبيرو، حيث أعاد لإذاعة القرآن الكريم هيبتها؛ بمنعه الإعلانات التجارية، التي جعلت من تلك المحطة سوقا لا تنفض، فعكّر ذلك مِزاج المستمعين لها في شتى البقاع .
وبالرغم من أنّ قرار المسلماني السالف، أفقد إذاعة القرآن الكريم موردا ماليا كبيرا في ظروف صعبة، لكنّ المكسب المعنوي قطعا أكبر من أي مكسب مادي، وهذا ما فطن إليه المسلماني .
شرع الرجل كذلك ينظر في خريطة البرامج التي توقفت؛ ليُعيد ما يمكن إعادته كبرنامج (قال الفيلسوف)، الذي كان له علينا، منذ نعومة أظفارنا، الأثر البالغ في تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق بأسلوب آسر وبسيط .
وفي رحلته للنهوض بهذا القطاع، نأمل أن تشمل رعايته برامج مثل: ( كتابٌ عربي علّم العالم، وكلمتين وبس، وأغرب القضايا، وإلى ربات البيوت، وحلقات بابا شارو، ولغتنا الجميلة، وقطوف الأدب من كلام العرب، وغيرها الكثير والكثير) من تراث الإذاعة المصرية الزاخر .
نعم أيها المسلماني المغوار .. طريق (الألف ميل)، يبدأ بخطوة، وقد بدأت أنت بالفعل بثقة وقوة، تُثبت أنّ مصر ولّادة، متى توافرت الإرادة، ووضع الشخصُ المناسب في المكان المناسب، وأنّ القيادة السياسية تُحسن اختيار رجالها .
جهود المسلماني المتعددة، واختياره لقيادات جديدة، وتكريمُه لأسرة مسلسل (أم كلثوم)، الذي شاهدته على شاشة التليفزيون مؤخرا، واستمعت فيه لكلمته المفعمة بالصدق دليلٌ على نبل الرجل، ووفائه لجهد فريق عملٍ، أسعدنا بفنه الهادف، ووقف أفرادُه على مسرح التليفزيون يتيهون فخرا بعملهم الجاد، الذي تأخر تكريمهم عليه سنوات، ولكنْ المهم أنّه جاء علي يد المسلماني الشجاع، الذي يؤمَّل فيه الكثير .
كان امتنانُ أفراد العمل، الذي نطقت به أعينهم، هو أعظم شكر لمن جاء ليقدّر جهدهم .
فامض أيها الجاد في طريقك، ولا تلتفت للمُثبطين أعداء النجاح، بيد أنَّ اختيارك جاء بعد فترة ظلام طالت، انتظرنا فيها بصيص نور، وافتقدنا البدر، وحقا: وفي الليلة الظلماء يُفتقدُ البدر .