عاجل

الحرية ليست شعارًا يُرفع في الشوارع ولا صرخة عابرة تُطلق وسط الزحام، بل هي مسؤولية قبل أن تكون حقًا، ووعي قبل أن تكون اندفاعًا. إنها قيمة عليا لا تستقيم إلا حين تُمارس في ضوء الإدراك العميق بأن ما نحصل عليه من حرية، يجب أن يقابله التزام ومسؤولية في استخدامها. فالحرية التي تُساء ممارستها تتحول إلى فوضى، والتعبير الذي يتجاوز حدوده يفقد معناه الأخلاقي ويهدد استقرار المجتمع.

شهدت بعض المدن المغربية خلال الأيام الماضية مظاهرات عبر فيها مواطنون، أغلبهم من فئة الشباب، عن مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة، وعن رغبة في التغيير والإصلاح. وهي مشاعر مفهومة في مجتمع يتطلع دومًا إلى مستقبل أفضل. غير أن هذه المظاهرات، التي بدأت سلمية في جو من الوعي والانضباط، حاول البعض أن يحرف مسارها نحو الفوضى، بإثارة الشغب أو الاعتداء على الممتلكات العامة، وكأن الحرية تمنح صكا لتجاوز حدود المسؤولية.

لكن، وكما يحدث في كثير من بلدان العالم، هناك دائمًا من يحاول الركوب على موجة الغضب الشعبي، وتوجيهها نحو مسارات خطيرة. فقد شهدنا محاولات محدودة – لكنها لافتة – لتحويل التظاهر السلمي إلى حالة من الفوضى، عبر أعمال شغب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة، واستفزاز رجال الأمن، ونشر مقاطع فيديو تدعو إلى التصعيد أو الفوضى.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: متى يتحول التعبير إلى تجاوز؟ ومتى تنقلب الحرية إلى تهديد للوطن؟

الجواب لا يكمن في القوانين وحدها، بل في وعي الإنسان ذاته. فالقانون يمكن أن يضع الحدود، لكنه لا يستطيع أن يغرس الضمير. وحده الوعي هو الذي يجعل المواطن يدرك أن الحرية ليست ضد الأمن، وأن المطالبة بالحقوق لا تكون بتدمير مكتسبات الآخرين. فالمواطن الحر لا يحتاج إلى أن يحرق أو يكسر أو يهاجم كي يسمع صوته، لأن قوة الكلمة الواعية أبلغ من أي فوضى، وأثرها أبقى من أي صخب.

إن مشهد التظاهر في المغرب لا يمكن عزله عن التحولات التي يعيشها الجيل الجديد في عصر الإعلام الرقمي، حيث بات الفضاء الافتراضي منصة للتعبير، وأحيانًا ساحة للتحريض أو نشر الأخبار الزائفة. وهنا تكمن خطورة المرحلة، لأن الوعي الرقمي أصبح جزءًا لا يتجزأ من الوعي الوطني. فالتعبير عن الرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولية كبرى، لأن التغريدة أو الفيديو قد تشعل فتنة أو تبث روح اليأس أو الكراهية في النفوس.

لقد قطع المغرب خلال العقود الأخيرة، بفضل تراكمات الإصلاحات السياسية والاجتماعية والحقوقية، أشواطًا مهمة في مسار بناء دولة القانون والمؤسسات. والحفاظ على هذه المكتسبات واجب وطني، يتشارك فيه الجميع: الدولة والمجتمع، النخب والمواطنون، الإعلاميون والمؤثرون. ومن هنا، فإن الفوضى تُعتبر تراجعًا عن روح المواطنة الحقيقية.
إن التعبير عن الرأي خاصة من هذا الجيل الذي يسمى بجيل Z يجب أن تبنى على الوعي والاحترام والحوار، لا على ردود الأفعال اللحظية والانفعالات العابرة. فالمطالبة بالحق لا تعني نفي النظام، والاعتراض لا يعني الكراهية، والنقد لا يعني التخريب. الحرية لا تكتمل إلا حين يُحسن الإنسان استخدامها، ويحترم القانون ويضع مصلحة وطنه فوق كل اعتبار.

وكما قال المفكر الفرنسي مونتسكيو: "الحرية الحقيقية لا توجد إلا في البلدان التي يكون فيها القانون هو السيد". وهذا يعني أن الحرية لا يمكن أن تُمارس خارج إطار النظام العام واحترام القوانين التي وُضعت لحماية الجميع.

لقد علمتنا التجارب الحديثة في العالم العربي أن الفوضى لا تجلب الإصلاح، بل الدمار والانقسام. وأن طريق البناء أطول، لكنه أكثر أمانًا واستدامة. وما نحتاجه اليوم في المغرب هو أن نؤمن بأن الإصلاح الحقيقي لا يولد من رحم الغضب، بل من رحم الوعي والتدرج والمشاركة الهادئة في صناعة القرار.

إن وطني المغرب يحتاج اليوم إلى كل صوت عاقل، لا إلى صرخات الغضب، وإلى كل يد تبني، لا تلك التي تهدم. فبين الحرية والفوضى خيط رفيع، لا يراه إلا من امتلك البصيرة التي تجعله يميز بين من يحب وطنه حقًا، ومن يحاول المتاجرة بآلامه.
ولأن المغرب مِلك للجميع، فإن الحفاظ على أمنه واستقراره ليس واجب السلطة وحدها، بل مسؤولية كل مواطن يؤمن أن الحرية الحقيقية تبدأ من احترام الوطن، لا من تجاوز حدوده.

تم نسخ الرابط