في عالم يتسابق نحو التقدم العلمي، وتتصدر فيه المعرفة والابتكار قائمة أدوات التنمية، تبقى العقول البشرية هي الثروة الحقيقية للأمم. وبينما تتصارع الدول المتقدمة لاستقطاب النخب العلمية والخبرات النادرة، تقف مصر – وهي تملك واحدة من أكبر الجاليات العلمية في الخارج – أمام معضلة قديمة جديدة: كيف تستعيد عقولها المهاجرة؟ وكيف تستفيد منها في تحقيق تنمية شاملة ومستدامة؟
نزيف الأدمغة.. خسارة وطنية مضاعفة
منذ عقود، هاجرت آلاف العقول المصرية إلى الخارج، باحثين عن بيئة علمية خصبة، وتقدير حقيقي لجهودهم، ودعم لبحوثهم ومشاريعهم. أطباء، مهندسون، علماء في الذكاء الاصطناعي، الطاقة، الطب النووي، الاقتصاد، والفضاء، يحتلون اليوم مناصب رفيعة في أكبر المؤسسات البحثية والجامعات العالمية.
لكنّ الكارثة لا تكمن فقط في هجرة هذه الكفاءات، بل في غياب سياسات واضحة وفاعلة لإعادة دمجهم في منظومة التنمية الوطنية. لقد تحولت الهجرة من فرصة للتعلم المؤقت إلى نزيف دائم للطاقات.
الاستفادة من العقول المصرية بالخارج: ضرورة وطنية لا ترف سياسي
إن الحديث عن التنمية الشاملة في مصر – سواء في الزراعة، الصناعة، التعليم، الصحة، أو التحول الرقمي – لا يكتمل دون إدماج العقول المصرية بالخارج في صلب هذه الرؤية. فهؤلاء لا يحملون فقط خبرات علمية راقية، بل يمتلكون شبكات علاقات دولية، وفهمًا عميقًا للأنظمة الحديثة في الإدارة والبحث العلمي، مما يجعلهم مؤهلين للعب أدوار محورية في تحديث الدولة المصرية.
نجح بعض العلماء المصريين العائدين في إحداث تأثير ملموس، مثل د. مصطفى السيد في علاج السرطان بجزيئات الذهب، أو د. فاروق الباز في الاستشعار عن بعد والتنمية الصحراوية. هذه النماذج تؤكد أن الاستثمار في العقول المهاجرة ليس مغامرة، بل رهان مضمون على المستقبل.
ومع جهود الدولة في السنوات الأخيرة، مثل مبادرات "مصر تستطيع"، بدأت بوادر عودة الروح للتواصل بين الدولة وخبرائها بالخارج. لكن المطلوب أكثر من مؤتمرات أو فعاليات رمزية؛ نحن بحاجة إلى استراتيجية متكاملة تشمل:
إنشاء هيئة وطنية دائمة للعقول المصرية بالخارج.
تقديم حوافز حقيقية للعودة أو للمساهمة عن بُعد.
دعم بيئة البحث العلمي محليًا من حيث التمويل، الاستقلالية، والبنية التحتية.
ربط مشاريع التنمية القومية بأفكار وحلول يقدمها المصريون بالخارج.
تعزيز ثقافة "الاستفادة دون الاستحواذ"، فليس شرطًا أن يعود الجميع، لكن الأهم هو إشراكهم في صنع القرار والابتكار.
البحث العلمي.. مدخل رئيسي للتنمية الشاملة
في قلب هذا المشروع الوطني لاستعادة العقول، يجب أن نُعيد الاعتبار للبحث العلمي. لا يمكن أن نطلب من عالم بالخارج أن يترك مختبراته المتطورة، ويعود إلى منظومة لا تقدّر الأبحاث، ولا تمولها، ولا تُدمج نتائجها في السياسات.
إن تمويل البحث العلمي ليس رفاهية، بل شرط أساسي لتقدم أي أمة. وبدون بنية حاضنة للابتكار، سيظل حديثنا عن التنمية الشاملة حبرًا على ورق.
الخاتمة: الوقت لا ينتظر أحدًا
إن استعادة العقول المهاجرة ليست مجرد قضية تعليم أو هجرة، بل هي مسألة أمن قومي وتقدم حضاري. فإما أن نستثمر في هؤلاء الكنز البشري الذي يملكه الوطن، أو نستمر في دوامة استيراد التكنولوجيا، واستجداء المعرفة، والركض خلف ركب التقدم.
العقول المصرية المهاجرة ما زالت على استعداد للعودة والمساهمة – إن توفرت الإرادة السياسية، والبيئة الحاضنة، والرؤية الواضحة.