أحياناً لا يكون الغياب مجرد مسافة زمنية، بل اختبار حقيقي لذاكرة الشعوب، 11 عامًا مرّت منذ أن غاب باسم يوسف عن شاشاتنا، لكنني أشعر وكأن صوته لم يفارقنا يومًا. كان دائمًا حاضرًا في المقارنات، في الحنين، وفي السؤال المتكرر.. "ماذا لو عاد؟".
اليوم أجد نفسي أمام خبر يُقال إنه قد يتحقق: مفاوضات حقيقية لعودته إلى التليفزيون المصري عبر شاشة "أون"، ليس ببرنامج ضخم كما اعتدنا، وإنما بفقرة ثابتة مع الإعلامي أحمد سالم في "كلمة أخيرة".
قد تبدو الخطوة بسيطة في ظاهرها، لكنها في معناها أعمق بكثير؛ عودة رجل تحدى السياسة بالسخرية، وواجه السلطة بالكلمة، ثم دفع ثمن جرأته بالصمت الطويل.
حكاية بدأت من غرفة صغيرة
لا أنسى تلك اللحظة التي شاهدت فيها أولى حلقاته على "يوتيوب" عام 2011،طبيب قرر أن يحمل كاميرا ويب ويسجل عشر دقائق من السخرية، فتحولت الغرفة الصغيرة إلى نافذة أمل.
ثم جاء "البرنامج"، ذلك الكيان الذي لم يكن مجرد عرض تلفزيوني، بل مرآة ساخرة تعكس واقعًا مرتبكًا، وصلت نسب مشاهدته إلى 40 مليون أسبوعيًا، وهو رقم لم يتحقق لبرامج سياسية في منطقتنا من قبل.
باسم يوسف لم يكن محايدًا، بل كان صريحًا إلى حد الوجع. سخر من الإعلام، من السياسيين، ومن الإخوان المسلمين في ذروة حكمهم.
جرأته جعلت البعض يكرهه، لكنها أيضًا جعلت الملايين يجدون فيه متنفسًا في لحظة سياسية خانقة.
كان يضحكنا، لكنه في العمق كان يوقظ فينا الأسئلة التي نخشى أن نسألها.
حتى بعد توقفه في 2014، ظل حاضرًا في وجداننا، لم يكن توقفه مجرد نهاية برنامج، بل نهاية فصل كامل في علاقة المصريين بالإعلام، ومع ذلك، ظل باسم حيًّا في حضوره العالمي، يظهر على القنوات الأمريكية، يتحدث عن فلسطين بإنجليزية رشيقة، ينقل صوتًا مختلفًا للعالم.
أن يعود باسم يوسف الآن لا يعني مجرد إطلالة جديدة، بل يعني اختبارًا لنا نحن قبل أن يكون له. هل ما زلنا نملك الحماس نفسه؟ هل تغيرت ذائقتنا مع قسوة الحياة اليومية؟
ربما لم يعد الناس يبحثون عن الضحك بقدر ما يبحثون عن لقمة العيش، لكنني أؤمن أن السخرية تبقى سلاحًا لا يُستبدل، لأنها تمنحنا القدرة على تحمل كل ما هو أثقل من الضحك نفسه.
أنا لا أرى عودة باسم يوسف حدثًا عابرًا، بل لحظة مواجهة مع ذاكرتنا، قد ينجح، وقد يخيب، لكن مجرد أن اسمه يعود ليتصدر المشهد بعد كل هذا الغياب، فهذا وحده كافٍ ليقول: إن بعض الأصوات لا تموت، بل تنتظر اللحظة المناسبة لتعود.