عندما تتجه دولتان صاعدتان إلى تبادل تخصيص الأراضي للأغراض اللوجستية والتجارية والاستثمارية فإن المسألة لا يمكن النظر إليها في إطار اقتصادي ضيق في رأيي الأرض هنا تتحول إلى أداة سياسية بالدرجة الأولى وورقة لإعادة رسم خريطة التحالفات والتوازنات داخل القارة الأفريقية وأعتقد أن منح دولة شريكة أرضا لإقامة مشروعات اقتصادية أو لوجستية هو في جوهره "استثمار في الثقة" إنه يعني الاعتراف بالآخر كلاعب استراتيجي جدير بأن يكون له موطئ قدم فعلي في الداخل الوطني لذلك فإن الاتفاق بين مصر ورواندا يتجاوز الحسابات التجارية ليعكس تحولا في طبيعة العلاقات من تعاون بروتوكولي تقليدي إلى شراكة ذات تجذر ملموس على الأرض.
وفي وجهة نظري هذه الخطوة تكشف بوضوح عن رغبة مصر في إعادة التموضع في قلب القارة الأفريقية فلم يعد مقبولا أن تظل القاهرة مجرد "مراقب" في التكتلات الاقتصادية الجديدة مثل منطقة التجارة الحرة القارية بينما تتسابق دول أخرى إلى تثبيت نفوذها والتواجد في رواندا عبر أراض مخصصة لمشروعات استراتيجية هو رسالة بأن مصر عازمة على أن تكون "صانع قواعد" وليس مجرد "مستهلك" للفرص وعلى الجانب الآخر رواندا والتي تحولت إلى نموذج أفريقي يشاد به عالميا تدرك أن الاعتماد المفرط على الشركاء الغربيين أو على التمويل الدولي التقليدي يحد من استقلالية قرارها وهنا أرى أن الانفتاح على شريك إقليمي بحجم مصر يعكس وعيا روانديا بضرورة بناء توازنات جديدة خصوصا في مجالات الإسكان النقل والبنية التحتية حيث تمتلك مصر خبرة تراكمية واضحة والبعد الجغرافي هو العامل الأكثر حسما فرواندا ليست مجرد دولة صغيرة في شرق أفريقيا إنها عقدة وصل في ممرات تجارية متصاعدة نحو المحيط الهندي ودخول مصر إلى هذه الجغرافيا عبر أراض لوجستية وتجارية يمنحها بوابة لمنافسة القوى الإقليمية الأخرى على طرق التجارة ومن هنا يصبح المشروع انعكاسا لرؤية سياسية بعيدة المدى والسيطرة على نقاط العبور في زمن تتحول فيه الممرات إلى أدوات قوة لا تقل أهمية عن الجيوش والقيمة الرمزية الكبرى لهذا الاتفاق أنه يكرس نموذجا مختلفا للتعاون شراكة جنوب-جنوب ففي وقت اعتادت فيه الدول الأفريقية أن تكون "متلقية" لشروط المانحين الكبار فإن تبادل الأراضي بين بلدين أفريقيين يبعث برسالة قوية أن التنمية يمكن أن تبنى بأدوات أفريقية وبمنطق المصالح المتبادلة، لا بالوصاية الخارجية وفي النهاية أرى أن تبادل تخصيص الأراضي بين مصر ورواندا ليس مجرد صفقة اقتصادية بل اختبار لجدية الطرفين في إعادة صياغة علاقتهما بالقارة وبالعالم والأرض هنا رمز ومعيار فمن يملك القدرة على تحويلها إلى رافعة للتنمية سيكسب النفوذ السياسي والاقتصادي في آن واحد ومن يفشل سيظل أسير الخطابات الرنانة التي لا تجد تجسيدا على أرض الواقع ويبدو تبادل تخصيص الأراضي بين مصر ورواندا أبعد من كونه مجرد اتفاق اقتصادي أو إجراء إداري فهو تعبير عن رؤية سياسية تسعى إلى إعادة تشكيل خرائط النفوذ عبر أداة غير تقليدية الأرض بما تحمله من رمزية السيادة وممكنات الاستثمار وحين تتحول الجغرافيا إلى منصة تعاون فإنها تكشف عن إدراك متبادل بأن التنمية لم تعد فعلا محليا صرفا بل رافعة لبناء تحالفات تتجاوز الحدود وتؤسس لمرحلة يكون فيها التكامل الإقليمي حجر الزاوية في معادلة الحضور الدولي وهكذا فإن هذا المسار لا يعكس فقط إرادة في جذب الاستثمارات أو تيسير التبادل التجاري، بل يترجم نزوعا نحو شراكة استراتيجية قد تضع البلدين في موقع أكثر تأثيرا على مسرح السياسة والاقتصاد في أفريقيا.