مساجد تاريخية|مسجد المرسي أبو العباس: مقام النور في عروس البحر

في قلب حي الأنفوشي ، ترتفع مآذن مسجد سيدي أبي العباس المرسي كأنها تحادث السماء، شاهدة على قرون من السمو الروحي والعبق التاريخي. هناك، عند حافة ميدان المساجد، تقف هذه التحفة المعمارية ليس فقط كصرحٍ ديني، بل كوثيقة حية على تداخل التصوف والفن، والإيمان والجمال، في لوحة مصرية لا تتكرر.
أبرز المعالم الصوفية في مصر
يعد مسجد أبا العباس المرسي من أبرز المعالم الصوفية في مصر، ويضم بين جنباته ضريح الإمام أبي العباس المرسي، أحد كبار أولياء الله الصالحين ومن أقطاب الطريقة الشاذلية، الذي هاجر من الأندلس إلى المغرب ثم إلى الإسكندرية، تاركًا خلفه إرثًا من الحكمة والزهد والعشق الإلهي.
ملامح العمارة الأندلسية والزخرفة الإسلامية
يتجلى الإبداع الفني في تصميم المسجد، الذي يحمل ملامح العمارة الأندلسية والزخرفة الإسلامية الأصيلة, تخطف الأنظار مئذنته الشاهقة التي تعانق السماء بعلوها البالغ 75 مترًا، وكأنها إصبع من نور يشير إلى السماء.

يتألف المسجد من ثمانية أضلاع متساوية الطول (22 مترًا لكل ضلع)، تعلوه قبة ضخمة تتوسط السقف كرمز للتماهي مع العرش السماوي، وتحف بها قبتان جانبيتان وأربع قباب أصغر فوق الأضرحة، في تناغم معماري مدهش.
أما الداخل، فهو عالمٌ من السكينة المتقنة. ثريا بلورية ضخمة تتدلى من السقف، تعد من الأكبر في مساجد مصر، إذ تزن 2.5 طن ويبلغ ارتفاعها سبعة أمتار، تعكس الضوء كأنها تنثر الدعاء في أرجاء المكان. وتُزين الجدران نقوش هندسية وزخارف نباتية بديعة، أما الأبواب والنوافذ فقد نُحتت من خشب الجوز والليمون، بإتقان فني يندر مثيله.
وتُسند قاعة الصلاة أعمدة رخامية من الغرانيت الإيطالي المصقول، نُحتت على الطراز الإسلامي العريق، بما يضفي على المكان هيبة وقدسية تتجاوز الحجر إلى الروح.

ذاكرة تتجدد في الزمن
تعود أصول المسجد إلى عام 716 هـ (1316 م)، حين أسسه أحد التجار المغاربة تكريمًا للإمام المرسي. مرّ البناء بعدة مراحل من التجديد خلال فترات المماليك والعثمانيين، لكنه تعرض لانهيار جزئي إثر زلزال عام 1929. وفي عهد الملك فؤاد الأول، أُعيد بناء المسجد بالكامل بإشراف المهندس الإيطالي ماريو روسي، واستغرق العمل فيه حتى عام 1943.
في عهد الملك فاروق، شهد المسجد توسعات جديدة، شملت إضافة مصلى للسيدات، فيما خضع لترميم شامل عام 1997 بلغت تكلفته خمسة ملايين جنيه، ما يدل على الحرص الرسمي والشعبي على صيانة هذا الصرح الروحي والمعماري.

المسجد ليس مجرد مكان للعبادة
يتجاوز مسجد أبي العباس وظيفته كدار صلاة، ليصبح مركزًا روحيًا صوفيًا يحتضن الزوار والمريدين ومحبي الطرق الصوفية. يشهد المسجد زحامًا روحيًا لا يوصف خلال الموالد والمناسبات الدينية، حيث ترتفع الأصوات بالابتهالات، وتختلط الدموع بالأنفاس في حضرة الأولياء.
ويحتوي المسجد على أضرحة عدد من تلامذة أبي العباس، مما يحوّله إلى مدرسة روحية مفتوحة، حيث الذكر والدعاء والعلم والتقوى يتعانقون تحت سقفٍ واحد.
الإمام المرسي من مرسية إلى الإسكندرية
وُلد أبو العباس المرسي في مدينة مرسية بالأندلس عام 616 هـ (1220م)، ودرس على يد كبار علماء عصره. هاجر إلى تونس ثم مصر، وتحديدًا الإسكندرية، حيث التقى شيخه أبي الحسن الشاذلي ولازمه حتى وفاته، ليحمل بعده لواء الطريقة الشاذلية.
عُرف الإمام بورعه، وبلغ مرتبة من الزهد والعرفان جعلته من أشهر العارفين بالله في التاريخ الإسلامي. توفي في 686 هـ (1287 م)، ودُفن حيث بات مقامه، منارة للزائرين وعشّاق التصوف.
قلب ينبض بالتصوف
لا يقف السحر عند حدود مسجد أبي العباس وحده، فـ"ميدان المساجد" الذي يحتضنه يضم كذلك مسجد الإمام البوصيري صاحب البردة الشهيرة، ومسجد ياقوت العرش وغيرهما، مما يجعل من هذا المكان نقطة التقاء فريدة بين الروح والذاكرة، بين الدين والفن، بين السماء والأرض.
حيث تلامس الأرواح السماء
في الإسكندرية، تلك المدينة التي تعشق البحر ويغازلها النسيم، يصبح مسجد أبي العباس المرسي نقطة التقاء بين الأرض والسماء. هناك، حيث يختلط صوت الأذان بصدى الموج، وتتحول لحظات الصمت إلى دعاء معلّق في الهواء، يصبح المسجد أكثر من بناء,بل حالة من الصفاء، مقام من النور، ومساحة لتأمل الوجود.