"أقدمتُ إقدام الشّابّ الجريء على قراءة كلِّ ما يقع تحت يدي من كتبِ أسلافنا: مِن تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن على اختلافها، إلى دواوين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشروحها، إلى ما تفرَّع عليها من كتب مصطلح الحديث، وكتب الرّجال والجرح والتّعديل، إلى كتب الفقهاء في الفقه، إلى كتب أصول الفقه وأصول الدّين (أي: علم الكلام)، وكتب المِلل والنِّحل، ثمّ كتب الأدب وكتب البلاغة، وكتب النّحو وكتب اللّغة، وكتب التّاريخ، وما شئت بعد ذلك من أبواب العلم" .
هذا ماذكره شيخ العربية الفرد أبو فهر محمود محمد شاكر في سفره الرائع "رسالة في الطريق إلي ثقافتنا"، الذي كان بحق سوطا ألهب ظهور وجلود أدعياء الثقافة والفكر، وأكد أنَّ ماذكره آنفا، كان زاده قبل الكتابة والكلام في فنون العربية وآدابها، فلم يتزبب الرجل قبل أن يتحصرم، بل وقف علي أرض صُلبة أولا بالدرس والتحصيل، ثم خاض غمار الدفاع عن العربية، وشنَّ حملات ضارية علي دعاة التغريب ممن يمَّموا وجوههم صوب الغرب؛ ظانين أنَّ لديه الكنز المفقود، ولكنه كان سرابا بقيعة، فأخطأوا بعدما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .. أقصد تراث العربية الزاخر !
شتان بين موقف الشيخ شاكر وأدعياء الثقافة اليوم ممن تراهم في كلِّ واد يهيمون، تسبق مواكبهم الرجَّالة، والخيالة، ويُصدِّرون أسماءهم بأوصاف رنَّانة كناقد وشاعر ومنظّر ومفكر وأديب، وغيرها، وهم في الحقيقة أدعياء مجوفون، تعجلوا جني الثمار قبل نضجها !
سببُ هذا المقال أنني حضرتُ أكثر من أمسية ثقافية، فأدهشني ضحالة الفكر، وركاكة الأسلوب، واضطراب المفاهيم، ورغما عن هذا، يعتقد هؤلاء أنهم أدباء لم تأت بهم ولادة، أو أنَّهم أتوا بما لم تأت به الأوائل، وهم في الحقيقة صفر علي شمال الرقم !
فيزعم بعضهم كذبا أنَّه قرأ آلاف الكتب، ورغما عن هذا تجده ينصب الفاعل، ويجرُّ المفعول، ويؤنث أو (يخنث) ما يستحق التذكير، ولا يعرف سنن الوضوء من واجباته .. ولله المشتكى .
ألم يقرأ هؤلاء المُتطوسون (مُنتفشو الريش على مفيش) قول العقاد : " لأن تقرأ كتابا واحدا ثلاث مرات خيرٌ لك من أن تقرأ ثلاثة كتب" !
وقطعا مع صاحب العبقريات ألفُ حق وحق، ففي الإعادة إفادة .. فاربأ بنفسك يا كلَّ دعي، وسر الهوينى، فإنَّك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولا، وتزبَّب قبل أن تتحصرم، وإلا صرت أضحوكة زمانك، كما نعاني من أمثال هؤلاء من الأدعياء .