عاجل

تشهد الساحة السياسية المصرية في الآونة الأخيرة حالة من الحراك الملحوظ داخل عدد من الأحزاب، تجسدت في خلافات وصراعات بعضها خرج إلى العلن وتصدر مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضها الآخر بقي محصورًا في أروقة الغرف المغلقة دون أن يتجاوز جدران المقرات الحزبية. هذه الظاهرة ليست جديدة على العمل الحزبي، لكنها تكتسب دلالات خاصة إذا ما وُضعت في سياق المرحلة السياسية الراهنة التي تتسم بالتحضير المبكر للانتخابات المقبلة وما يرتبط بها من رهانات وتطلعات.

من الزاوية السياسية البحتة، يمكن القول إن السبب المباشر لهذه الصراعات يعود إلى الانتخابات، بما تحمله من وعود لم تتحقق، وأحلام لم تجد طريقها إلى أرض الواقع، وتطلعات شخصية أو جماعية اصطدمت بحدود الإمكانات أو بتعقيدات التوازنات الداخلية. غير أن حصر المسألة في هذا التفسير وحده يُفقدنا البعد الأعمق، وهو البعد النفسي الذي ينعكس في طبيعة السلوك السياسي للأفراد داخل التنظيمات.

البعد السياسي: بين الطموح والتوازنات

الأحزاب بطبيعتها كيانات سياسية تسعى للوصول إلى السلطة أو التأثير في القرار العام. ومع اقتراب أي استحقاق انتخابي، تتحول الساحة الداخلية إلى ساحة سباق، يتنافس فيها الأعضاء على الترشح، والمواقع القيادية، والظهور الإعلامي. هنا تبرز الخلافات:
• الوعود الانتخابية غير المنفذة تولّد شعورًا بالإحباط لدى القواعد، فيتحول إلى غضب يوجه نحو القيادة.
• الأحلام الكبيرة التي تُسوَّق للأعضاء – مثل فرص الترشح أو التمكين السياسي – إذا لم تتحقق، تتحول إلى مادة خصبة للصراع.
• التحالفات والتوازنات الداخلية بين أجنحة الحزب تخلق معادلات صعبة، تجعل أي خلل في إدارة هذه التوازنات سببًا كافيًا لانفجار الخلافات.

هذه الملامح كلها تؤكد أن الصراع داخل الأحزاب المصرية ليس استثناءً، بل هو جزء طبيعي من ديناميكيات العمل السياسي. لكن الفرق بين حزب وآخر يتحدد بمدى قدرة القيادة على إدارة هذه الخلافات وتحويلها من صراعات شخصية إلى منافسة بنّاءة تخدم المشروع السياسي.

البعد النفسي: السلطة كأداة لإشباع الحاجات

علم النفس السياسي يقدم لنا عدسة مختلفة لفهم هذه الظاهرة. فالأحزاب لا تضم فقط برامج وأفكار، بل تضم أفرادًا يحمل كل منهم دوافعه وأحلامه الخاصة.
• بعض الأعضاء ينظر إلى الحزب باعتباره وسيلة لتحقيق الذات، عبر الحصول على منصب أو مقعد برلماني أو مساحة من النفوذ.
• آخرون يرونه منصة للوجاهة الاجتماعية، حيث يمنحهم الانتماء الحزبي مكانة ورمزية في مجتمعهم المحلي.
• وهناك من ينخرط بدافع الإيمان الفكري والسياسي، لكنه سرعان ما يصطدم بواقع تغلب فيه الحسابات الشخصية على المبادئ.

من هنا، فإن الصراعات الحزبية كثيرًا ما تعكس إشباع حاجات نفسية غير محققة، مثل الحاجة إلى التقدير، أو الحاجة إلى السلطة، أو حتى مجرد الشعور بالانتماء والاعتراف. وعندما تُحرم هذه الحاجات، يظهر ما يسميه علماء النفس بـ”الإحباط العدواني”، أي تحويل الإحباط إلى سلوك صراعي وعدائي تجاه الزملاء أو القيادات.

الأحزاب ووسائل التواصل: من السرية إلى العلن

من المثير أن بعض هذه الصراعات لم تعد محصورة داخل الأطر التنظيمية، بل خرجت إلى الفضاء الرقمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هنا يتضاعف الأثر النفسي والسياسي معًا:
• سياسيًا، يضعف الحزب أمام الرأي العام، حيث يُنظر إليه كجسم منقسم وغير قادر على إدارة شؤونه الداخلية.
• نفسيًا، تتحول منصات التواصل إلى ساحة “تنفيس” للأعضاء الغاضبين، وهو ما يعكس فقدان الثقة في قنوات الحوار الداخلي.

هذا الانتقال من السرية إلى العلن يكشف عن أزمة ثقة عميقة بين القواعد والقيادات، ويُظهر أن بعض الأعضاء باتوا يرون في الرأي العام حكمًا بديلًا عن مؤسسات الحزب.

بين المشروع والمرحلة

من المؤكد أن مثل هذه الخلافات “مشروعة” في هذه المرحلة، فهي انعكاس طبيعي لحيوية أي كيان سياسي يستعد لانتخابات قادمة. لكنها تتحول إلى تهديد وجودي إذا لم تُدار بحكمة. فالتاريخ السياسي، محليًا ودوليًا، يوضح أن أحزابًا كبرى انهارت بسبب صراعات داخلية لم تُحسن قياداتها إدارتها، بينما نجت أخرى لأنها حولت الخلاف إلى تنافس منظم، وصاغت آليات ديمقراطية داخلية تعطي كل عضو فرصة للتعبير والتأثير.

الخلاصة:

الأحزاب المصرية اليوم تقف على صفيح ساخن، تحكمها اعتبارات سياسية آنية، وتتحرك بوعي أو دون وعي تحت ضغط عوامل نفسية عميقة. الخلافات قد تكون علامة صحية على الحيوية السياسية إذا جرى احتواؤها، لكنها قد تتحول إلى أداة تفكيك ذاتي إذا استُسلم للغضب والإحباط.
إن الجمع بين المنظورين السياسي والنفسي يوضح أن الصراع ليس مجرد تنافس على المقاعد، بل هو انعكاس لديناميكيات معقدة بين الطموح والخيبة، بين الحاجة إلى السلطة والحاجة إلى الاعتراف. ولعل التحدي الحقيقي أمام الأحزاب ليس تجنب الخلافات، بل القدرة على تحويلها إلى وقود يدفعها نحو التطور بدلًا من أن يجرّها إلى الانقسام والتراجع.

تم نسخ الرابط