عاجل

البنك المركزي..عقد من السياسات الحكيمة لكبح جماح التضخم في مصر

معدلات التضخم
معدلات التضخم

منذ أكثر من عقد، يعيش الاقتصاد المصري على وقع تحديات متكررة، جعلت معدلات التضخم واحدة من أهم القضايا التي تشغل المواطن وصانع القرار على السواء، فالتضخم ليس مجرد أرقام تُعلنها الجهات الرسمية كل شهر، بل هو انعكاس مباشر لقيمة الجنيه المصري في السوق المحلية،  وقدرته الشرائية، بجانب تحديد مستوى المعيشة للمصريين .

وفي ظل هذه الأهمية، برز دور البنك المركزي المصري بوصفه اللاعب الرئيسي في معركة كبح جماح التضخم، مستخدمًا ما يمتلكه من أدوات السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية، ومعتمدًا على قدر كبير من المرونة والحزم في التعامل مع التطورات المتسارعة محليًا وعالميًا.

أظهرت بيانات البنك المركزي أنه خلال السنوات العشر من 2014 إلى 2024، واجهت مصر سلسلة من الأزمات الاقتصادية، بدءًا من تحرير سعر الصرف، مرورًا بجائحة كورونا، وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية واضطراب سلاسل الإمداد العالمية، وعلى الرغم من حدة هذه الأزمات، فإن السياسة النقدية المصرية أظهرت ما يمكن وصفه بـ"الحكمة"، من خلال تحقيق التوازن بين استهداف التضخم ودعم النمو الاقتصادي، ومنع انفلات الأسعار إلى مستويات قد تهدد الاستقرار الاجتماعي.

 2014 – 2015 الاستقرار الحذر

 

دخلت مصر العقد الماضي وهي تعاني من إرث اقتصادي ثقيل عجز في الموازنة العامة، ارتفاع معدلات البطالة، وضغوط على ميزان المدفوعات، ورغم هذه التحديات، بقي التضخم في حدود مقبولة نسبيًا تراوحت بين 9% و11%، وفقًا لتقارير صادرة عن البنك المركزي المصري. 

خلال هذه الفترة، اتسمت سياسات البنك المركزي بالتركيز على ضبط السيولة ومراقبة حركة أسعار السلع الأساسية، دون اللجوء إلى تدخلات جذرية، فقد كان الهدف الأساسي هو تثبيت توقعات السوق ومنع حدوث قفزات مفاجئة في الأسعار.

لجأ البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة تدريجيًا حينما لاحظ أي إشارات تضخمية، كما أدار عمليات السوق المفتوحة بمرونة لضبط حجم المعروض النقدي، بجانب أنه عمل بالتوازي مع الحكومة على متابعة الأسواق عبر آليات رقابية لمنع الممارسات الاحتكارية.

كانت سياسة البنك المركزي أقرب إلى سياسة الوقاية لم تكن هناك أزمة تضخمية كبرى، لكن المركزي كان يتحرك بحذر حتى لا يفقد السيطرة فجأة.

 2016 التعويم والاختبار الأصعب

في نوفمبر 2016، اتخذت مصر أحد أهم القرارات الاقتصادية في تاريخها الحديث تحرير سعر الصرف أو ما يعرف بـ"التعويم"، هذا القرار كان شرطًا أساسيًا للحصول على برنامج تمويلي من صندوق النقد الدولي، لكنه مثل أيضًا صدمة قوية للأسواق والمواطنين.

تأثير القرار على التضخم

فور تحرير الجنيه، فقدت العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها أمام الدولار. ونتيجة لذلك قفز التضخم السنوي إلى 23.3% بنهاية العام، 

شهدت أسعار السلع المستوردة زيادات قياسية، ارتفعت تكاليف الإنتاج المحلي بسبب الاعتماد الكبير على المواد الخام المستوردة.

سياسة البنك المركزي في مواجهة الموجة

أمام هذه الأزمة، اتخذ البنك المركزي إجراءات وصفت حينها بـ"المؤلمة لكنها ضرورية" أهمها رفع أسعار الفائدة بأكثر من 700 نقطة أساس في فترة قصيرة ما يعادل 7%، و تشديد السياسة النقدية لامتصاص السيولة ومنع المضاربة على الدولار، وإطلاق آليات جديدة لبيع وشراء العملة بهدف توفير الدولار للبنوك وتقليل السوق السوداء.

هذه الإجراءات لم تمنع حدوث التضخم المرتفع في 2016، لكنها كبحت انفلات الأسعار الذي كان يمكن أن يتجاوز 40% لولا تدخل البنك المركزي.

2017 – 2018 ذروة التضخم والسيطرة التدريجية

 

ذروة تاريخية في 2017

بعد قرار التعويم في نوفمبر 2016، انعكست آثاره بشكل أوضح خلال عام 2017، حيث سجل التضخم مستويات تاريخية لم يشهدها الاقتصاد المصري منذ عقود.

وصل معدل التضخم السنوي في يوليو 2017 إلى 33% تقريبًا.

ارتفعت أسعار الغذاء بأكثر من 40%، والوقود بأكثر من 50%، نتيجة رفع تدريجي لدعم الطاقة.

شهدت الأسواق حالة من الارتباك، حيث أصبح المواطن يواجه زيادات شهرية في أسعار السلع الأساسية.

رغم حدة هذه الأزمة، لم يتراجع البنك المركزي المصري عن مساره الإصلاحي، بل اعتمد سياسة نقدية مشددة استهدفت امتصاص السيولة والتحكم في توقعات التضخم.

أدوات البنك المركزي

1. رفع أسعار الفائدة الأساسية إلى مستويات قياسية تجاوزت 18%.

2. تفعيل برامج رقابة على البنوك لضمان التزامها بسقوف الإقراض.

3. تعزيز الاحتياطيات الأجنبية عبر أدوات تمويل دولية، ما ساعد على استقرار سوق الصرف تدريجيًا.

مع نهاية 2017، بدأت معدلات التضخم تتراجع تدريجيًا من 33% إلى حدود 21%، وهو ما عُد مؤشرًا على نجاح السياسات النقدية في إعادة السيطرة.

2018 بداية استعادة التوازن

عام 2018 مثّل مرحلة انتقالية، حيث بدأ التضخم في الانخفاض إلى مستويات أقل كثيرًا، مسجلًا 14.4% بنهاية العام.

العوامل المساعدة

انضباط سوق الصرف واختفاء السوق الموازية تقريبًا.

تحسن الاحتياطيات الأجنبية لتتجاوز 42 مليار دولار، ما عزز الثقة في الجنيه.

استمرار التشديد النقدي حتى تستقر توقعات السوق.

انعكاسات على المواطن

رغم تراجع الأرقام الرسمية للتضخم، ظل المواطن يشعر بعبء الأسعار المرتفعة، خصوصًا مع استمرار الإصلاحات في دعم الوقود والكهرباء. وهنا برز تحدٍ مزدوج أمام البنك المركزي، خفض التضخم من ناحية، وعدم خنق النمو الاقتصادي من ناحية أخرى.

2019 – 2020 الاستقرار النسبي وجائحة كورونا

2019 ثمرة السياسات النقدية

بعد سنوات من التشديد النقدي، بدأت مصر تجني ثمار سياسات البنك المركزي،  فقد تراجع معدل التضخم إلى 9.2% في يونيو 2019، ثم إلى أقل من 6% في بعض الأشهر، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عقد.

أبرز ملامح هذه المرحلة

البنك المركزي بدأ في خفض تدريجي للفائدة بعد سنوات من التشديد.

إطلاق مبادرات لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بتمويل ميسر.

السيطرة على توقعات السوق عززت من ثقة المستثمرين الأجانب في أدوات الدين الحكومية.

2020 جائحة كورونا وتحديات جديدة

 

مع انتشار فيروس كورونا عالميًا، واجهت مصر – مثل باقي دول العالم – أزمة غير مسبوقة. ورغم التحديات:

ابقي التضخم في حدود 5% – 7%، أي في نطاق مستهدف البنك المركزي.

اتخذ البنك المركزي خطوة جريئة بخفض الفائدة 300 نقطة أساس دفعة واحدة في مارس 2020 لدعم الاقتصاد.

أطلق مبادرات لدعم القطاعات الأكثر تضررًا (السياحة، الصناعة، الصحة).

قراءة في هذه المرحلة

ما يميز 2019 – 2020 هو مرونة السياسة النقدية:

من التشديد لضبط التضخم (2017 – 2018).

إلى التيسير لدعم النشاط الاقتصادي دون التضحية باستقرار الأسعار (2019 – 2020).

2021 – 2022 صدمات عالمية جديدة

بداية الارتفاع من جديد

بعد مرحلة الاستقرار النسبي 2019 – 2020، دخل الاقتصاد المصري تحديًا جديدًا في 2021 مع بدء التعافي العالمي من جائحة كورونا هذا التعافي صاحبه، ارتفاع أسعار النفط عالميًا، زيادة تكاليف الشحن والنقل، نقص المعروض من بعض السلع الأساسية.

في مصر، انعكس ذلك على التضخم الذي ارتفع تدريجيًا إلى ما بين 6% – 8% في منتصف 2021.

الحرب الروسية الأوكرانية

مع اندلاع الحرب في فبراير 2022، تضاعفت الأزمة، أسعار القمح ارتفعت عالميًا، ومصر أكبر مستورد للقمح في العالم، أسعار الوقود ارتفعت لمستويات قياسية، تكاليف الشحن والنقل تضاعفت، وكنتيجة مباشرة، ارتفع معدل التضخم في مصر إلى 13% – 14% بنهاية 2022.

2023 – 2024 التحديات الكبرى ومستويات تاريخية

2023.. قفزة غير مسبوقة

عام 2023 كان عامًا استثنائيًا للتضخم في مصر. فقد سجل المعدل السنوي أكثر من 30%، وفي بعض الأشهر تجاوز 35%، وهي من أعلى المستويات في تاريخ الاقتصاد الحديث.

أسباب القفزة

استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.

أزمة سلاسل الإمداد العالمية.

ضغوط على سعر الصرف نتيجة ارتفاع فاتورة الاستيراد.

زيادة تكلفة الطاقة عالميًا.

سياسات البنك المركزي :

1. رفع أسعار الفائدة عدة مرات لتصل لمستويات تاريخية تتجاوز 19%.

2. تشديد السياسة النقدية بهدف امتصاص السيولة الزائدة من الأسواق.

3. تعزيز برامج الشمول المالي لتخفيف آثار التضخم على الفئات الأقل دخلًا.

4. التنسيق مع الحكومة عبر مبادرات لضبط أسعار السلع الأساسية، مثل القمح والزيت والسكر.

2024.. بداية محاولات الاستقرار

مع حلول 2024، بدأ التضخم يظهر إشارات تراجع نسبي، لكنه بقي في مستويات مرتفعة مقارنة بالسنوات السابقة (حوالي 25% – 28%).

البنك المركزي استمر في سياساته الحذرة، مع التأكيد على أن الهدف ليس القضاء على التضخم فورًا، بل كبح جماحه تدريجيًا دون التضحية بالنمو الاقتصادي.

انعكاسات التضخم على حياة المواطن

رغم السياسات النقدية الصارمة، ظل المواطن المصري في قلب المشهد، إذ انعكست معدلات التضخم المرتفعة على:

القدرة الشرائية: تراجع واضح في القوة الشرائية للأسر.

نمط الاستهلاك: تحول كثير من المواطنين إلى شراء الكميات الأقل والتركيز على الأساسيات.

الثقة في العملة: ارتبطت معدلات التضخم بمستوى الثقة في الجنيه مقارنة بالعملات الأجنبية.

التضخم سيواصل التراجع بمتوسط 14% و15% في 2025

تشير توقعات البنك المركزي المصري إلى أن معدل التضخم سيستمر في التراجع، ليسجل متوسطا يتراوح بين 14% و15% خلال عام 2025.

أوضح المركزي في تقرير لجنة السياسة النقدية، أن التطورات الإيجابية من تباطؤ معدل التضخم في والتطورات الشهرية للتضخم مقارنة بالأشهر السابقة وكذا تطورات سعر الصرف الداعمة أفسحت المجال لاستئناف دورة التيسير النقدي.

 

تم نسخ الرابط