الاتجاه الخطر: ما دلالات بناء السواتر الترابية حول الفاشر السودانية؟

في 30 أغسطس 2025، نشرت جامعة ييل الأمريكية، من خلال مختبر الأبحاث الإنسانية التابع لها، نتائج تحليل لصور أقمار اصطناعية تُظهر استكمال بناء شبكة واسعة من السواتر الترابية حول مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور غربي السودان.
ووفقًا للتقرير، بلغ إجمالي طول السواتر التي تم توثيقها أكثر من 31 كيلومتراً، شُيّدت على مراحل منذ مايو 2025 في مناطق تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، وقد تم تحديد أربعة مسارات رئيسية لبناء هذه السواتر: الأول بطول 9 كيلومترات أنشئ بين 14 و24 يوليو 2025، والثاني بطول 6 كيلومترات بين 3 و19 أغسطس 2025، والثالث بطول 7 كيلومترات بين 5 مايو و12 يوليو 2025، أما الرابع فبلغ طوله 9 كيلومترات وأُنجِز بين 13 و27 أغسطس 2025، مشكّلاً معاً ما يشبه نصف دائرة تمتد من الجهة الغربية إلى الشمالية من المدينة، وذلك حسبما كشف مركز رع للدراسات الاستراتيجية.
تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: هل يمهد بناء السواتر الترابية حول الفاشر لتقسيم السودان؟
أبعاد متعددة:
يمتد تأثير بناء السواتر الترابية حول الفاشر ليشمل أبعادًا متعددة سياسية وإنسانية وعسكرية تعكس تعقيدات الصراع المستمر في المنطقة، تتمثل أبرزها في:
(-) البُعد العسكري والتكتيكي: يعكس الحصار الترابي الذي يحيط بمدينة الفاشر تخطيطًا عسكريًا محكمًا حيث تم بناء أكثر من 31 كيلومترًا من السواتر على شكل نصف دائرة كاملة بهدف تطويق المدينة بشكل كامل، تهدف هذه الاستراتيجية إلى شل حركة الجيش السوداني داخل الفاشر ومنع أي عمليات هجومية أو دفاعية، بالإضافة إلى قطع خطوط الإمداد القادمة من شمال كردفان ومناطق نفوذ الجيش الأخرى. فمن خلال تحويل المدينة إلى جيب مغلق أو صندوق قتل عسكريًا، تفرض قوات الدعم السريع سيطرتها الجوية والبرية ما يمنحها ميزة تكتيكية كبيرة تتيح لها تحقيق الانتصار دون خوض معارك شوارع مكلفة، وتستخدم هذه السواتر كأداة ضغط لإجبار الجيش على الاستسلام، بينما تبعث رسالة واضحة عن قدرتها على فرض هندسة جغرافية جديدة للصراع في دارفور.
(-) البُعد الإنساني: وراء بناء السواتر الترابية، تقف مأساة إنسانية متفاقمة تتجسد في نقص حاد في الغذاء والدواء بسبب منع دخول المساعدات الدولية إلى المدينة منذ أشهر، ما أدى إلى تفاقم الأزمة وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل كبير. كما وثقت تقارير محلية تَعَرُض الأحياء السكنية لقصف مباشر أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من المدنيين، إلى جانب انهيار القطاع الصحي إثر قصف أحد المستشفيات الرئيسية، مما أدى إلى تعطيل الخدمات الطبية وترك آلاف المرضى بلا علاج. إضافة إلى ذلك، شهدت القرى المحيطة مثل قرية السين تدميرًا كاملًا بين مايو ويوليو 2025، مما تسبب في نزوح جماعي جديد للسكان. وبهذا يصبح الجدار الترابي أداة لتجويع وإرهاق المجتمع المحلي، ويُعتبر هذا الوضع ضمن جرائم الحرب بموجب القانون الدولي، حيث وجد المدنيون في الفاشر أنفسهم محاصرين بين مطرقة الحصار وسندان القصف في مأساة تذكر بحصارات مدن تاريخية مثل سراييفو وحلب.
(-) البعد السياسي: تمثل السيطرة على الفاشر أكثر من مجرد مكسب ميداني، فهي تحمل أهمية سياسية ورمزية كبيرة. إذ تُعد الفاشر آخر معقل رئيسي للجيش السوداني في إقليم دارفور، وسقوطها يعني عمليًا نهاية نفوذ الجيش في هذه المنطقة. كما أن للفاشر مكانة حضارية وتاريخية باعتبارها عاصمة سلطنة دارفور سابقًا، مما يجعل السيطرة عليها تعبيرًا رمزيًا يعزز مكانة قوات الدعم السريع كقوة بديلة للسلطة المركزية في الخرطوم. بالإضافة إلى ذلك، يتيح سقوط المدينة لقوات الدعم السريع فرض إدارة فعلية على إقليم دارفور، بما يشبه حكومة محلية مستقلة. هذا التحول لا يقتصر على تغيير موازين القوى العسكرية فقط، بل يعيد تعريف الجغرافيا السياسية للسودان، حيث يصبح الغرب تحت سلطة موازية، بينما يظل الجيش مركزًا في مناطق الوسط والشرق.
تداعيات محتملة:
ينطوي بناء السواتر الترابية حول الفاشر على تداعيات واسعة النطاق تؤثر على المستويات الإنسانية والسياسية والأمنية في السودان، منها:
(-) تفكك الدولة السودانية: إن بناء السواتر وسقوط الفاشر المحتمل، يُدخِل السودان في مرحلة جديدة من التفكك السياسي والجغرافي، إذ أن فقدان الجيش السيطرة على دارفور يعني تنازله عن الادعاء بالسيطرة الكاملة على البلاد. وقد تتحول دارفور بإدارتها المنفصلة تحت سيطرة قوات الدعم السريع إلى كيان شبه مستقل، بما يعيد إلى الأذهان تجربة انفصال جنوب السودان عام 2011. هذا النموذج قد يشجع مناطق أخرى مثل جنوب كردفان على اتباع نفس السيناريو، خاصة مع هشاشة الدولة المركزية. داخليًا، ستتزايد موجات النزوح الجماعي، وستصعب قدرة الحكومة المركزية على الوصول إلى مواطنيها، مما يؤدي إلى إضعاف شرعية الدولة على المستوى الشعبي.
(-) تداعيات إقليمية: تمتد انعكاسات الحصار حول الفاشر إلى ما هو أبعد من حدود السودان، حيث تواجه الدول المجاورة مثل تشاد وليبيا خطر تدفق أعداد جديدة من اللاجئين، بالإضافة إلى احتمال تسلل الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود. في جنوب السودان، يتزايد القلق من أن سيطرة قوات الدعم السريع على دارفور قد تفتح ممرات جديدة لتهريب الأسلحة، مما يفاقم حالة عدم الاستقرار في المنطقة. أما القوى الإقليمية الفاعلة، فمن المتوقع أن تزيد من تدخلاتها لتعزيز مصالحها وتأمين نفوذها في الملف السوداني. على الصعيد الدولي، قد يجد الغرب نفسه مضطرًا للتدخل بشكل إنساني أو سياسي، خاصة مع تحول دارفور إلى جيب معزول يعرض استقرار المنطقة لخطر كبير، بما سيجر معه سلسلة من الأزمات والتوترات العابرة للحدود.
ختامًا، تعكس الوقائع أن الفاشر تمثل آخر مركز حضري مهم للجيش السوداني في دارفور، وسقوطها سيمهد الطريق لسيطرة قوات الدعم السريع على كامل الإقليم، حيث بدأت هذه القوات تدير مناطق واسعة من دارفور بشكل مستقل من خلال فرض الضرائب وإدارة شؤون مدنية وأمنية. ويعيد الحصار إنتاج نموذج الدولة داخل الدولة، كما شهدنا في مناطق أخرى من البلقان والشرق الأوسط. وإذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن السودان يتجه نحو تقسيم واقعي حيث تسيطر قوى مختلفة على أقاليم متفرقة، وربما تقسيم رسمي إذا ما اعترفت به أطراف دولية أو إقليمية في المستقبل. وما يزيد من خطورة هذا السيناريو أنه قد لا يكون مجرد نتيجة عرضية للنزاع، بل خيارًا استراتيجيًا لأطراف محلية وخارجية تسعى إلى تقسيم السودان إلى كيانات أصغر.