وصايا موسى ووثيقة محمد.. أزهري يسلط الضوء على المواطنة في «الأخوة الإنسانية»

سلط الدكتور حمادة شعبان المشرف بمرصد الأزهر، الضوء على المواطنة في وثيقة الأخوة الإنسانية، من خلال وصايا النبي موسى عليه السلام ووثيقة المدينة المنورة التي جاءت عن النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
المواطنة في وثيقة الأخوة الإنسانية بين وصايا موسى ووثيقة محمد
وأبرزت الدراسة أنه من الخصائص الأساسية التي تميز الشرق الأوسط عن غيره من المناطق، تلك السمات الجيو ثقافية النابعة من العمق التاريخي الذي يمتلكه. فأكبر التطورات الثقافية والدينية والفكرية التي أثرت في تاريخ البشرية تحققت على أرض هذه المنطقة (أحمد داود أوغلو: ص. 361، 362). فهي مهد الأديان السماوية، ومن ثم فهي منبع الأفكار والفلسفات والقيم التي صدرت عن هذه الأديان، وموطن رواد علمائها. والأمثلة على ذلك كثيرة، بل إن كثيرًا من الأفكار التي تُعد من سمات عصر الحداثة تعود بجذورها إلى هذه المنطقة، مما يعكس عمق تأثيرها الحضاري المستمر عبر العصور.

وبينت أنه من أبرز هذه الأفكار التي نشأت من عمق التراث الديني والإنساني للشرق الأوسط فكرة "حقوق الإنسان". فعلى الرغم من حداثة المصطلح بمفهومه القانوني المعاصر، فإن دلالاته ومبادئه تعود إلى جذور دينية سماوية، حيث كُرّم الإنسان واعتُبر أعظم مخلوقات الله، وحُرّم الاعتداء عليه بأي شكل من الأشكال. وقد جاءت الرسالات السماوية ترسخ هذه الكرامة، وتأكد الحقوق الأساسية التي تكفل للإنسان حياة حرة وكريمة، ما يجعل من "حقوق الإنسان" فكرة ذات امتداد تاريخي وثقافي متجذر في منطقة الشرق الأوسط.
وقال الدكتور حمادة شعبان في دراسته حول «المواطنة في وثيقة الأخوة الإنسانية»، قد ورد في الوصايا العشر لسيدنا موسى عليه السلام من فوق جبل طور سيناء "... لا تقتل، لا تزني، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك..." (خروج ٢٠: ٢-١٧). فهنا منظومة حقوقية ترسخ حق الإنسان في الحياة وحفظ ماله وعرضه وإقامة العدل معه. وفي "موعظة الجبل" من فوق جبل الجليل في "فلسطين" الحبيبة قال المسيح عليه السلام، "قَد سمعْتمْ أَنَّه قِيل لِلْقدماء: لاَ تَقتل، ومنْ قَتَل يَكون مُسْتَوجِب الحكْم."(مت 5: 21). "قَد سمعْتمْ أَنَّهُ قِيل لِلْقدمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقول لَكُمْ: إِنَّ كلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَة لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ (مت 5: 27-32). وهي موعظة طويلة رسخت لعديد من حقوق الإنسان من أهمها حقه في الحياة وحفظ عرضه. ومن فوق جبل عرفات بمكة المكرمة وقف النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وقال: "أيها الناس إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم، كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، وكحرمة شهرِكُمْ هَذَا..."(ابن هشام: ص. 284). فهذه العبارة ترسخ لأهم حق من حقوق الإنسان وهو "حقه في الحياة، الذي يُعد أصلًا لكل الحقوق الإنسانية، ولا مجال للحديث عن حقوقٍ أخرى إذا أنكرنا على الإنسان هذا الحق" (محمود حمدي زقزوق: ص. 35).
هذه الأفكار الدينية جميعها قالها الأنبياء للناس في منطقتنا العربية أو الشرق أوسطية، وخرجت من هذه المنطقة إلى العالم كله، ودارت حولها دراسات وفلسفات وتنظيرات وآراء أثرت في مجرى الثقافات والحضارات المختلفة.
تعريف المواطنة:
جاء في الدراسة بيان لتعريف المواطنة، حيث قال: كذلك من أهم الأفكار حديثة المصطلح قديمة الدلالة فكرة "المواطنة"، ولها معاني عدة من بينها، "المساواة بين المواطنين المختلفين في الدين أو المعتقد أو الوضع الاجتماعي أو الانتماء الجغرافي أو غيرها، وهي حقوق وواجبات يتحلى بها من يحمل صفة المواطنة، وهي كذلك مشاركة في شئون المجتمع، تتمثل في سعي المواطن للحصول على فرص متساوية لتطوير جودة الحياة التي يعيشها" (سامح فوزي: ص192). وهذه النقاط لها جذور دينية من حيث الفكر، شرق أوسطية من حيث الجغرافيا.
وأوضح أنه من يتأمل وثيقة المدينة المنورة يجد فيها تجسيدًا واضحًا لقيمة المواطنة وتعريفها السابق. فقد ورد في مطلع الوثيقة: "هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس..." (عائشة عبد الله الزهراني: ص368). وهذه العبارة تُظهر بوضوح أن المهاجرين من قريش وأهل يثرب يشكّلون كيانًا واحدًا، وأمة موحدة رغم تعدد خلفياتهم.
وكان مجتمع يثرب آنذاك مجتمعًا متنوعًا، يضم المسلمين واليهود من حيث الانتماء الديني، فضلًا عن التعدد القبلي الذي تمثل في الأوس والخزرج وبني عوف وبني النجار وغيرهم. ورغم هذا التنوع، اعتبرت الوثيقة الجميع جزءًا من "أمة واحدة"، وهو ما يُعد تجسيدًا فعليًا لمفهوم المواطنة، حيث يتساوى جميع المواطنين تحت مظلة الوطن، بكل ما يحمله من تعددية دينية واجتماعية وقبلية.
ولم تكتف وثيقة المدينة المنورة بهذا المفهوم الإجمالي، بل ذكرته تفصيلًا في مواضع أخرى: "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف...". وتؤكد هذه الفقرة بوضوح أن التنوع الديني لا يُناقض مبدأ المواطنة، بل يمكن أن يتعايش معه في إطار من السلم المجتمعي والاحترام المتبادل. كما تُقر بحرية كل طائفة في ممارسة شعائرها الدينية، مما يُسهم في بناء مجتمع يقوم على التعددية وقبول الآخر. وبذلك، تُرسخ الوثيقة قيمة المواطنة على أسس من العدل والتنوع والحرية، وهي ركائز أساسية لاستقرار المجتمعات التعددية وتماسكها.

المواطنة في وثيقة الأخوة الإنسانية
وعند التأمل في وثيقة الأخوة الإنسانية، يتبيّن أنها تتضمن فقرات عامة تُعزز من قيمة المواطنة، وما يرتبط بها من مبادئ مثل حرية المعتقد، وقبول الآخر، واحترام التعددية، والمساواة بين جميع المواطنين. وقد عرّفت الوثيقة المواطنة بأنها "مفهوم يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق التي ينعم في ظلالها الجميع بالعدل" (الوثيقة: ص13). وهذه العبارة عبارة مهمة للغاية، وضعت في اعتبارها نضال العلماء والفلاسفة المؤمنين بالمساواة منذ فجر التاريخ فيما يخص كيفية تتحقيق المساواة بين الناس رغم اختلافهم في درجة التعليم والمكانة الاجتماعية والمستوى الاقتصادي. ولذلك ربطت الوثيقة المساواة بقيمة أخرى مهمة وهي قيمة العدل، فجعلت المساواة مشروطة بأن ينعم الجميع في ظلها بالعدل. فالمساواة دون تقيد بالعدل قد تنقلب إلى ظلم. ولتوضيح ذلك، يمكن الاستعانة بمثال بسيط: إذا كان لأبٍ ولد في الجامعة وآخر في المرحلة الابتدائية، وقرر أن يمنحهما نفس المصروف اليومي دون مراعاة لاختلاف احتياجات كل منهما، فإنه يكون قد ساوى بينهما ظاهريًا، لكنه لم يكن عادلًا، لأن احتياجات الابن الأكبر تختلف بطبيعة الحال عن احتياجات أخيه الأصغر.
لترسيخ مفهوم المواطنة أيضًا حثت الوثيقة على عدم استخدام مصطلح "الأقليات". تقول الوثيقة في هذا الشأن "لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة... والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح الأقليات، الذي يحمل في طياته الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد لبذور الفتن والشقاق..." (الوثيقة ص. 13).
وتُعد هذه مسألة بالغة الأهمية، إذ إن استخدام مصطلح "أقلية" قد يُفضي إلى انقسام في الولاء الوطني، ويُشعر من يُطلق عليهم هذا الوصف بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وهو ما يدفعهم إلى الوعي باختلافهم وليس تنوعهم، وبهويتهم الدينية أو الإثنية التي كانت سببًا في تصنيفهم كـ"أقلية"، فيزداد تمسكهم بها، وقد يتحول هذا التمسك مع مرور الوقت وتعاقب الأجيال إلى أيديولوجيا سياسية. وفي بعض الحالات، قد يؤدي هذا المسار إلى انخراطهم في تحالفات أو علاقات مع دول أجنبية تجمعهم بها روابط دينية أو عرقية، فتُصبح هذه الدول محل انتماء أقوى من وطنهم الأصلي. ومن ثم وجب على المجتمعات متعددة الثقافات احتواء جميع العناصر والهويات الفرعية الموجودة بها.
ويقول منظرو التعددية الثقافية إنه لن يكون بمقدورنا توحيد الأمة حول قيم الديمقراطية عن طريق إجبار الناس من المجموعات العرقية والثقافية المختلفة، على استبعاد ثقافاتهم ولغاتهم الخاصة. فأحد أهم مبادئ المجتمع الديمقراطي التعددي هو مشاركة المواطنين طواعية في الوحدة الوطنية، ومشاركتهم هذه ستكون ثراءً للأمة والدولة. فعندما يشارك المواطنون في المجتمع، ويضفون على الثقافة القومية دينامكيات ثقافتهم الخاصة، فإنهم بذلك يثرون الأمة، ويثرون ثقافتهم على حدٍ سواء (فاتح يازيجي: ص40).
كما أكدت الوثيقة على حرية المعتقد والعبادة وهي ضرورية لترسيخ قيمة المواطنة القائمة على احترام التعددية الدينية. تقول الوثيقة في هذا الشأن: "إن الحرية حق لكل إنسان: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسة" (الوثيقة ص: 11).
فالحرية ليست منحة يمنّ بها أحد على أحد، ومن هنا كانت صيحة عمر بن الخطاب في وجه "عمرو بن العاص" الذي اعتدى ابنه على مواطن مصري: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟"... ومن مقاصد الشريعة الإسلامية "حماية العقل"، ولا يكتمل الحفاظ على العقل إلا بضمان حق الإنسان في الحرية، فالحرية هي قوام العقل، وافتقادها يعني إلغاء دور العقل، وإلغاء دور العقل يؤدي إلى تخلف الفكر، الذي يؤدي إلى تخلف المجتمع... (زقزوق: 25، 26، 118). وقد كفل الإسلام حرية المعتقد ووضع لها أُسسًا تقوم عليها؛ منها: اعتبار الكرامة الإنسانية أساسًا للتعامل... واعتبار الاختلاف سُنة كونية... فضًلا عن اعتبار العدل أساسًا للعلاقة بين الناس جميعًا مسلمين وغير مسلمين، أصدقاء وأعداء (عياد: بوابة الأزهر).
ويؤكد كل ما سبق على مفهوم المواطنة التي تقوم على الحرية الواعية، المسؤولة، والمنضبطة بضوابط أخلاقية، تضمن احترام حرية الآخرين ومقدساتهم.
ومع ذلك، نلحظ في بعض المجتمعات الغربية إساءة لاستخدام مفهوم الحرية، وبخاصة "حرية التعبير"، حيث تُستغل أحيانًا كذريعة للاعتداء على مقدسات الآخرين وإهانتها. ويمارس ذلك بعض أفراد التيارات اليمينية المتطرفة ممن لا يُفرّقون بين حرية التعبير وحرية الإهانة، فينتج عن ذلك ما يهدد المواطنة ويقوّض أسس السلم المجتمعي.
وإذا كانت حرية المعتقد تُعد جزءًا أساسيًا من ترسيخ قيمة المواطنة، فإن من لوازم هذا المبدأ حماية دور العبادة وصيانتها، باعتبارها رمزًا لحرية التدين وممارسة الشعائر الدينية. وقد أكدت وثيقة الأخوة الإنسانية هذا المعنى بوضوح، حيث جاء فيه:: "إن حماية دور العبادة من معابد وكنائس ومساجد واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، وكل محاولة للتعرض لدور العبادة واستهدافها... هي خروج صريح عن تعاليم الأديان، وانتهاك واضح للقوانين الدولية" (الوثيقة: ص12).
ويُظهر هذا النص التزامًا صريحًا بحماية الأماكن الدينية باعتبارها جزءًا من الكيان العام للمواطنة، ويؤكد أن أي اعتداء عليها لا يُعد فقط انتهاكًا لحقوق فئة معينة، بل هو مساس بالسلم المجتمعي، وتجاوز لقيم الأديان والمواثيق الدولية كافة.
وتضمنت خاتمة الدراسة بالقول: يتضح من خلال ما سبق أن المواطنة ليست مجرد انتماء جغرافي أو قانوني، بل هي قيمة إنسانية سامية تقوم على أسس العدل، والحرية، والمساواة، واحترام التعددية الدينية والثقافية. وقد جسّدتها وثائق تاريخية كوثيقة المدينة المنورة، ورسّختها مبادئ معاصرة كوثيقة الأخوة الإنسانية، مؤكدة أن كرامة الإنسان وحرية معتقده وحماية مقدساته هي ركائز لا غنى عنها لتحقيق السلم المجتمعي، وتحصين المجتمعات ضد التطرف والانقسام. فالمواطنة الحقة هي التي توازن بين الحقوق والواجبات، وتقوم على حرية واعية، مسؤولة، لا تتعدى على الآخرين ولا على مقدساتهم.
وجاءت مراجعها كالتالي:
- ابن هشام، السيرة النبوية، علق عليها: عمر عبد السلام تدمر، الجزء الرابع، الطبعة الثالثة، دار الكتاب العربي، بيروت 1990.
- أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، الطبعة الثانية، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة 2011.
- سامح فوزي، مفهوم المواطنة: إطلالة أولية، مؤتمر الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل، القاهرة 2017.
- عائشة عبد الله الزهراني، حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية "وثيقة المدينة أنموذجًا"، المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العلمي، العدد: الثالث والأربعون، 2022.
- فاتح يازيجي، التعددية الثقافية وتدريس التاريخ في مدارس الأقليات، ترجمة: حمادة شعبان، هلا للنشر والتوزيع، القاهرة 2024.
- محمود حمدي زقزوق، الفكر الديني وقضايا العصر، دار القدس العربي، القاهرة 2016.
- نظير عيّاد، ملتقى "حرية الدين والمعتقد" بالمركز الثقافي الإيطالي، بوابة الأزهر، 18 فبراير 2020.
- وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، هدية مجلة الأزهر، مارس 2019.