عاجل

في عالمٍ يتسارع فيه التحول الرقمي، لم يعد الذكاء الصناعي مجرد أداة تكنولوجية متقدمة، بل أصبح لاعباً رئيسياً في ميدان السياسة والانتخابات. فمنذ العام 2024، بدأت الأحزاب السياسية في مختلف أنحاء العالم تُعيد صياغة استراتيجياتها الانتخابية باستخدام أدوات الذكاء الصناعي، مما فتح الباب أمام فرص غير مسبوقة، لكنه في الوقت ذاته أثار تساؤلات جدية حول مستقبل الديمقراطية ونزاهة العملية الانتخابية.
أدوات جديدة لساحة قديمة
لم تكن الحملات الانتخابية يوماً بعيدة عن التكنولوجيا، لكن ما يميز مرحلتنا الحالية هو طبيعة الأدوات المستخدمة. فبدلاً من الاستطلاعات التقليدية والدعاية الورقية، باتت الخوارزميات قادرة على تحليل ملايين البيانات في ثوانٍ، واستخراج أنماط سلوكية دقيقة للناخبين. في انتخابات البرلمان الأوروبي 2024، استغل حزب "فولت" الألماني هذه التقنيات لاستهداف الناخبين الشباب عبر منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام"، بعد أن قام بتحليل اهتماماتهم وتفاعلاتهم الرقمية، مما مكنه من تصميم رسائل سياسية تُلامس همومهم الحقيقية.
أما في ألمانيا نفسها، فقد استخدم حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AFD) تقنيات التزييف العميق (Deep Fake) لإنشاء فيديوهات مثيرة للمخاوف، تُظهر سيناريوهات سلبية محتملة في حال فوز خصومه، مستغلاً العاطفة الجماهيرية وخوفهم من المستقبل. وفي الوقت ذاته، استثمر الحزب بكثافة في الإعلانات الموجهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مستخدماً خوارزميات الذكاء الصناعي لتحديد أفضل الأوقات والمنصات لنشر المحتوى، مما أدى إلى تفاعل جماهيري غير مسبوق.
تحليل البيانات: فهم أعمق للناخب
أحد أبرز استخدامات الذكاء الصناعي في الحملات الانتخابية هو تحليل بيانات الناخبين. فمن خلال جمع المعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي، واستطلاعات الرأي الرقمية، وحتى من سجلات الشراء عبر الإنترنت، يمكن للخوارزميات رسم صورة دقيقة لكل ناخب، تتضمن اهتماماته، ومخاوفه، وتوجهاته السياسية.
في انتخابات عام 2024 في الهند، استخدمت الأحزاب السياسية هذه التقنيات لترجمة الخطب السياسية في الوقت الحقيقي إلى مختلف اللغات المحلية، مما مكن المرشحين من الوصول إلى شريحة أوسع من الناخبين. كما تمكن حزب "المؤتمر الوطني الديمقراطي" من تحليل بيانات الناخبين لتحديد المناطق التي تعاني من مشكلات البنية التحتية، وبالتالي ركزت حملته الانتخابية على وعود بتطوير هذه المناطق، مما أدى إلى زيادة في نسبة التصويت لصالحه.
التزييف العميق: بين الإبداع والخداع
رغم الفوائد الواضحة، إلا أن استخدام الذكاء الصناعي في الحملات الانتخابية لم يخلُ من الجوانب السلبية. فقد ظهرت حالات متعددة لاستخدام تقنيات التزييف العميق لنشر معلومات مضللة، مما أثار جدلاً واسعاً حول أخلاقيات استخدام هذه التقنيات.
في الانتخابات التشريعية الفرنسية 2024، انتشرت مقاطع فيديو مزيفة تُظهر أفراداً من عائلة مارين لوبان وهم يسخرون من الأقليات العرقية، رغم أن هؤلاء الأفراد غير موجودين أصلاً. وقد تمت مشاهدة هذه الفيديوهات أكثر من 2 مليون مرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تأجيج مشاعر الكراهية والانقسام المجتمعي.
وفي غانا، تم الكشف عن شبكة من 171 حساباً مزيفاً على الأقل، استخدمت الذكاء الصناعي لنشر رسائل مضللة تروج لحزب سياسي محدد، رغم عدم وجود دليل على ارتباطها الرسمي بالحزب. وقد تم إنشاء هذه الرسائل باستخدام أدوات مثل "ChatGPT"، مما جعلها تبدو وكأنها منشورات حقيقية لمستخدمين فعليين.
التهديدات الدولية: عندما يصبح الذكاء الصناعي سلاحاً جيوسياسياً
لم تقتصر استخدامات الذكاء الصناعي على الأحزاب المحلية، بل تعداها إلى تدخلات دولية. فقد أشار تقرير صادر عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية إلى أن دولاً مثل روسيا وإيران والصين استخدمت أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية لإنشاء محتوى مزيف ومثير للانقسام، بهدف التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024.
في مولدوفا، ظهر مقطع فيديو مزيف لرئيسة الجمهورية مايا ساندو وهي تدعم حزباً سياسياً مقرباً من روسيا، رغم أنها معروفة بمواقفها المؤيدة للغرب. وقد أعربت السلطات المولدوفية عن قلقها من أن تكون الحكومة الروسية تقف وراء هذا النشاط، مما يعكس استخدام الذكاء الصناعي كأداة للتأثير في السياسات الداخلية للدول الأخرى.
التنظيم والضوابط: البحث عن توازن
في ظل هذه التحديات، بدأت عدة دول في سن تشريعات تنظّم استخدام الذكاء الصناعي في الحملات الانتخابية. ففي الفلبين، أصدرت لجنة الانتخابات (COMELEC) إرشادات جديدة تلزم المرشحين بالكشف عن استخدام الذكاء الصناعي في مواد حملاتهم الانتخابية، وتمنع استخدامه لنشر معلومات مضللة ضد منافسيهم.
كما أقرت ولاية كاليفورنيا الأمريكية تشريعاً يجعل استخدام التزييف العميق لتشويه سمعة المعارضين السياسيين أمراً غير قانوني خلال الستين يوماً السابقة للانتخابات. وفي الاتحاد الأوروبي، يجري العمل على وضع إطار قانوني شامل يضمن شفافية استخدام الذكاء الصناعي في العمليات الديمقراطية.
نظرة مستقبلية: بين الفرص والمخاطر
يبدو أن استخدام الذكاء الصناعي في الحملات الانتخابية ليس موضة عابرة، بل هو جزء من تحول جذري في طريقة ممارسة السياسة. فمن خلال تقليل التكاليف وزيادة الكفاءة، يمكن للأحزاب الصغيرة أن تنافس نظيراتها الكبيرة على قدم المساواة. كما أن القدرة على الوصول إلى شرائح مجتمعية مختلفة بلغاتها ولهجاتها المحلية تعزز من مبدأ المساواة في الفرص.
لكن في المقابل، تظل المخاوف من تلاعب الخوارزميات بإرادة الناخبين قائمة. فإذا لم يتم وضع ضوابط صارمة، فقد يؤدي استخدام الذكاء الصناعي إلى تفاقم الانقسامات المجتمعية، ونشر المعلومات المضللة، بل والتأثير على نتائج الانتخابات بطرق غير ديمقراطية.
خلاصة: ديمقراطية في زمن الذكاء الاصطناعي
إن الذكاء الصناعي في الحملات الانتخابية ما هو إلا انعكاس لحالة العالم الرقمي المعقد. فهو أداة قوية يمكن أن تكون في خدمة الديمقراطية إذا استخدمت بحكمة وشفافية، لكنها قد تصبح تهديداً حقيقياً إذا وقعت في الأيدي الخطأ.
لذلك، فإن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد التوازن بين الاستفادة من إمكانيات الذكاء الصناعي، والحفاظ على النزاهة والشفافية في العملية الديمقراطية. وهذا يتطلب تعاوناً وثيقاً بين الحكومات، والمؤسسات التقنية، والمجتمع المدني، لوضع إطار أخلاقي وقانوني يضمن أن تبقى الإنسانية هي صاحبة القرار النهائي، وليس الخوارزميات.

تم نسخ الرابط