سليم سحاب: الموسيقى الكلاسيكية ليست ترفاً.. بل رسالة حضارية للأمة العربية

أتحدث إليكم اليوم بلسان العاشق للفن، المؤمن برسالته، المتيقن من أن الموسيقى ليست مجرد ألحان أو أنغام عابرة، بل هي حياة كاملة تنبض بالقيم والمعاني الموسيقى الكلاسيكية في الوطن العربي لم تأتِ كاستيرادٍ من الغرب، وإنما امتزجت بروحنا الشرقية لتخلق هوية خاصة بنا.
لقد تعلمتُ منذ سنوات شبابي أن الفن ليس رفاهية ولا ترفاً، وإنما هو القوة الناعمة التي تستطيع أن تعبر الحدود وتكسر الحواجز وتوحد الشعوب ولهذا أؤمن أن الموسيقى الكلاسيكية في العالم العربي هي مشروع ثقافي وحضاري يجب أن ندافع عنه ونرسخه للأجيال القادمة.
دور الموسيقى في تشكيل الوعي الجمعي العربي
حين نسمع السيمفونيات الكبرى أو مقطوعات كبار المؤلفين، فإننا لا نستمتع فقط بعمل موسيقي راقٍ، وإنما ننغمس في تجربة فكرية وروحية تُعيد إلينا الإحساس بالزمن والمكان والتاريخ الموسيقى الكلاسيكية تُهذب الوجدان وتمنح المستمع طاقة من النقاء الروحي تجعله أقرب إلى ذاته وأكثر إنسانية.
لقد لعبت هذه الموسيقى دوراً محورياً في تشكيل الوعي الجمعي العربي، وساهمت في بناء جسور التواصل بين الثقافات، فالفنان العربي حين يتقن هذه اللغة العالمية، فإنه لا يفقد هويته بل يضيف إليها بُعداً جديداً يربطه بالعالم أجمع.
تحديات الموسيقى الكلاسيكية في عصر السرعة
لا أنكر أن الموسيقى الكلاسيكية تواجه اليوم تحديات كبيرة أمام طوفان الأغاني التجارية والإيقاعات السريعة التي تجذب الأذن لكنها لا تخاطب العقل أو الروح. في زمن السرعة، أصبح الصبر على الاستماع إلى مقطوعة تستمر نصف ساعة أو أكثر أمراً صعباً على الكثيرين.
لكن هنا تكمن مسؤوليتنا كفنّانين ومثقفين، أن نعيد للجمهور ثقته في هذا الفن الراقي، وأن نفتح لهم أبواب التذوق الموسيقي بأساليب عصرية قادرة على الجمع بين الأصالة والحداثة.
سيد درويش.. أيقونة الموسيقى المصرية
إذا كان الغرب يفتخر ببيتهوفن وموتسارت وتشايكوفسكي، فإننا في مصر والعالم العربي نعتز ونفتخر بسيد درويش. هذا الفنان العبقري لم يكن مجرد ملحن أو مطرب، بل كان ثورة فنية وثقافية غيّرت وجه الموسيقى العربية.
لقد جسّد سيد درويش روح الشعب المصري في ألحانه، فغنى للحرية، وللعمال، وللطلبة، وللجنود، وجعل من الموسيقى أداة للتعبير عن قضايا الناس وهمومهم اليومية ولهذا فإن مكانته في قلوب المصريين والعرب لم ولن تتراجع مهما مرّت السنوات.
مدرسة سيد درويش الفنية وتأثيرها
ما يميز سيد درويش أنه لم يكتفِ بالنغم الجميل، بل قدّم رؤية متكاملة جعلت من الفن وسيلة للنهوض بالمجتمع. ألحانه كانت مرآة للشارع، ولها بصمة لا يمكن لأي فنان تجاهلها من يستمع إلى "قوم يا مصري" أو "الحلوة دي" يدرك أنه أمام موسيقى خرجت من قلب الوطن لتعبر عن وجدانه.
مدرسته أثرت في أجيال متلاحقة من الفنانين، بدءاً من محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وصولاً إلى الجيل الجديد. ولا يمكن لأي دارس للموسيقى العربية أن يتجاوز هذا الاسم الذي أعاد صياغة هوية الفن المصري في بدايات القرن العشرين.
سيد درويش.. من المحلية إلى العالمية
رغم أن سيد درويش عاش حياة قصيرة نسبياً، فإن إبداعاته تجاوزت حدود المكان والزمان. لقد كان بحق فناناً عالمياً بمعايير الموسيقى، لأنه قدّم فناً أصيلاً يعكس وجدان شعبه لكنه في الوقت نفسه قادر على الوصول إلى الآخر.
ألحانه تُدرّس اليوم في معاهد الموسيقى، وتُعزف على المسارح الكبرى، وتظل شاهدة على أن الفن الحقيقي لا يموت. إن سيد درويش هو الجسر الذي يربط بين الموسيقى الكلاسيكية العالمية والهوية المصرية الأصيلة.
الموسيقى الكلاسيكية كقوة ناعمة عربية
حين نتحدث عن الموسيقى الكلاسيكية في الوطن العربي، فإننا نتحدث عن كنز ثقافي يمكن أن يكون أحد أعمدة القوة الناعمة لبلادنا. هذا الفن قادر على تقديم صورة حضارية راقية عن العرب في المحافل الدولية، وهو ما أدعو دائماً إلى دعمه عبر إنشاء فرق أوركسترا جديدة، وتوسيع نشاط دور الأوبرا، وتشجيع تعليم الموسيقى للأطفال منذ الصغر.
الاستثمار في التعليم الموسيقي
إن الطريق للحفاظ على الموسيقى الكلاسيكية يبدأ من التعليم. يجب أن نزرع في نفوس الأجيال الجديدة حب هذا الفن، وأن نتيح لهم الفرصة لدراسة الآلات الموسيقية الغربية والشرقية معاً، ليخرج لدينا جيل يجمع بين الأصالة والمعرفة العلمية التعليم الموسيقي ليس ترفاً، بل هو ضرورة حضارية تُخرج إنساناً أكثر إبداعاً وتوازناً.
دعوة للحفاظ على إرثنا الفني
رسالتي الأخيرة أن الموسيقى الكلاسيكية هي أحد أهم ركائز الهوية الثقافية العربية، وأن الحفاظ عليها ليس مسؤولية الفنانين وحدهم، بل مسؤولية المجتمع كله. علينا أن نعيد اكتشاف تراثنا الموسيقي، من سيد درويش إلى المبدعين المعاصرين، وأن نجعل من هذا الفن رسالة حضارية تحمل للعالم أجمع صورة الإنسان العربي المبدع والمتجدد.