عاجل

منذ سنوات طويلة، ظل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بمثابة البوصلة التي تحدد اتجاه الاقتصاد العالمي. أي كلمة تصدر عن رئيسه جيروم باول، سرعان ما تهز الأسواق كما تهز الرياح العاتية سفينة في عرض البحر. وفي جاكسون هول هذا العام، ألمح باول إلى خفض محتمل للفائدة في سبتمبر، فارتفعت الأسهم وقفز التفاؤل، لكن خلف هذه القفزة تختبئ معضلة أكبر بكثير !

أسعار الفائدة بين طموحات ترامب وواقعية الفيدرالي

اليوم الفائدة الأميركية تتأرجح عند مستويات 4.25 – 4.5%، وهي مستويات “مقيدة” للنشاط الاقتصادي، بينما التضخم لا يزال يثير القلق. الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفعت الأسعار بالفعل .
ترامب يضغط لخفض الفائدة منذ شهور، فيما يحاول باول الموازنة بين معادلة شبه مستحيلة: الحفاظ على استقرار الأسعار دون التضحية بسوق العمل. وهو ما دفع باول للتحذير من أن “المخاطر على الوظائف تتزايد”.
هنا تكمن المفارقة: خفض الفائدة قد يحمي الوظائف ويحفز النمو، لكنه في الوقت ذاته قد يشعل التضخم من جديد.
الفيدرالي عالق بين مطرقة التضخم وسندان البطالة، في معادلة لا تحتمل الخطأ

انعكاسات عالمية واسعة

قرارات الفيدرالي لا تبقى محصورة داخل الولايات المتحدة. خفض الفائدة يعني عادة ضعفًا نسبيا في الدولار، مما يعزز جاذبية الأسواق الناشئة ويزيد تدفقات الأموال إليها . كما يدفع أسعار السلع والمعادن إلى الارتفاع.
كذلك فان  الرسوم الجمركية الأميركية تهدد بخلق تضخم عالمي، يرفع كلفة الغذاء والطاقة ويضغط على الاقتصادات النامية.
الأسواق تحتفل اليوم باحتمال خفض الفائدة، لكنها تتجاهل أن العالم يعيش حالة “لايقين اقتصادي "حيث كل قرار في واشنطن قد يولد ارتدادات غير محسوبة في آسيا وأفريقيا وأوروبا .

مصر بين المكاسب والتحديات

بالنسبة للاقتصاد المصري خفض اسعار الفائدة الأميركية  له وجهين :

•من ناحيه فرصة: حيث زيادة التدفقات الدولارية نحو أدوات الدين، ويمنح استقرارًا أكبر لسعر الصرف.
•ومن ناحيه اخرى تحدى : لان أي قفزة في أسعار الغذاء والطاقة عالميًا ستصل سريعًا إلى المستهلك المصري، لترفع التضخم المحلي وتضغط على ميزانية الأسر.
التحدي الحقيقي لمصر هو كيف تستفيد من التدفقات المالية دون أن تقع في فخ “التضخم المستورد” ؟

ما بعد اسعار الفائدة..  عالم يحتاج فكرًا اقتصاديًا جديداً

نحن أمام عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة: حروب تجارية، صدمات جيوسياسية، اختلالات في سلاسل الإمداد، وتكنولوجيا تعيد رسم ملامح أسواق العمل والإنتاج. في هذا السياق، السياسة النقدية وحدها لم تعد تكفي… خفض أو رفع الفائدة قد يخفف من حدة الأزمة هنا أو هناك، لكنه لن يعالج جذور المشكلات. نحن بحاجة إلى سياسات اقتصادية متكاملة، بالإضافة الى سياسات جديدة خارج الصندوق: تدعم الابتكار، و تعيد التوازن، و تستثمر في الإنسان والبنية التحتية.

في النهاية، قد ينجح الفيدرالي في خفض الفائدة، وقد يربح جولة مؤقتة في معركة الأسواق. لكن الحقيقة الأعمق أن العالم لم يعد كما كان: الأدوات التقليدية تترنح أمام واقع غير تقليدي.
الأسواق تنتظر كلمة من باول، لكن المستقبل لا يُصنع في خطابات ولا في قرارات سعر فائدة فقط. إنه يُصنع في القدرة على تجديد الفكر الاقتصادي، في شجاعة الخروج من الصندوق، وفي الاستثمار في الإنسان قبل الأرقام.

الاقتصاد المصرى قادر ان يحمى نفسه من الصدمات الخارجية ،  فمفتاح الحماية الحقيقية يكمن في زيادة الإنتاج المحلي، خاصة في السلع الغذائية والطاقة، بما يقلل الاعتماد على الخارج ويحد من “التضخم المستورد”. كذلك، فإن تنويع الشركاء التجاريين شرقًا وغربًا يخفف من الاعتماد المفرط على الأسواق التقليدية، ويمنح الاقتصاد المصري مرونة أكبر في مواجهة تقلبات عالمية لم تعد قابلة للتنبؤ.

وهذا في جوهره هو توجه القيادة السياسية في مصر: تعميق التصنيع المحلي، وتشجيع الاستثمار في الزراعة والطاقة المتجددة، والانفتاح على أسواق جديدة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. توجه يعكس إدراكًا عميقًا أن الاقتصاد القوي لا يُبنى فقط على قرارات الفائدة العالمية، بل على قدرة الدولة على إنتاج ما تحتاجه وتنويع مصادر قوتها.

تم نسخ الرابط