عاجل

في خضم الطفرة التكنولوجية التي يشهدها العالم، لم يعد الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على تطبيقات الطب أو الصناعة أو التعليم، بل امتد ليطرق أبواب العدالة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبله في غرف التحقيق وساحات القضاء.
المحقق القضائي هو الركيزة الأساسية في بناء القضايا الجنائية، إذ يتولى جمع الأدلة، واستجواب الشهود، وتحليل الملابسات لتكوين ملف متكامل يُعرض أمام المحكمة. ويتطلب هذا الدور مستوى عالٍ من الدقة والتحليل المنطقي، إلى جانب إلمام واسع بالقانون وفهم للسياق الاجتماعي والنفسي المحيط بالقضية.
تُظهر التطورات الأخيرة أن الذكاء الاصطناعي بات قادرًا على أداء مهام كانت حكرًا على البشر، ومنها:
تحليل كم هائل من البيانات في زمن قياسي، ما يتيح فحص ملايين الوثائق والملفات القضائية بكفاءة.
اكتشاف الأنماط والروابط بين الأشخاص أو الأحداث، خاصة في القضايا المعقدة متعددة الأطراف.
التنبؤ بالسلوك الإجرامي اعتمادًا على خوارزميات مدربة على أنماط سابقة.
دعم الاستجواب من خلال تحليل لغة الجسد ونبرة الصوت باستخدام تقنيات متقدمة.مراجعة التسجيلات المرئية والصوتية لتعقب تحركات المشتبه بهم أو تحديد لحظات مفصلية في الجرائم.
استخدام الذكاء الاصطناعي في التحقيق القضائي يعد تحولًا نوعيًا يمكن أن يحقق:
تسريع الإجراءات القضائية.
تقليل معدل الأخطاء البشرية.
تقديم تحليلات محايدة خالية من العاطفة أو الانحياز.
لكن الطريق ليس خاليًا من العثرات
رغم الإمكانات الهائلة، تبرز تحديات حقيقية قد تحول الذكاء الاصطناعي من أداة للعدالة إلى مصدر لانتهاك الحقوق، أبرزها:
التحيز الخوارزمي: إذا تم تدريب الذكاء الاصطناعي على بيانات غير متوازنة، قد ينتج عنها قرارات منحازة وظالمة.
انتهاك الخصوصية: التعامل مع البيانات الشخصية يثير مخاوف قانونية وأخلاقية.
فقدان البعد الإنساني: الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى القدرة على التعاطف وفهم السياق الثقافي والنفسي.
غياب المساءلة: في حال وقوع خطأ، من يتحمل المسؤولية؟ المبرمج؟ الجهة القضائية؟ أم النظام ذاته؟
إمكانية الاختراق والتلاعب: مثل أي نظام رقمي، يمكن استهدافه ببيانات مزيفة أو اختراقه أمنيًا
عدة دول، من بينها الولايات المتحدة والصين، بدأت فعليًا في استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل سجلات الجرائم والتنبؤ بالمجرمين المحتملين. كما جرت تجارب لاستجواب الشهود باستخدام خوارزميات قادرة على رصد مؤشرات الكذب عبر تعبيرات الوجه ونبرة الصوت
ورغم كل ما سبق، يرى كثير من الخبراء أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يظل أداة مساعدة لا بديلًا عن المحقق البشري، فالعقل الإنساني يظل الأقدر على فهم التعقيدات الأخلاقية والنفسية، وتقدير الظرف الإنساني في القضايا الحساسة.
ختامًا: عدالة المستقبل بين الأمل والحذر
الذكاء الاصطناعي كمحقق قضائي يمثل نقلة تكنولوجية مثيرة قد تعيد رسم ملامح العدالة، لكنه في الوقت ذاته، يشكل تحديًا أخلاقيًا وقانونيًا يتطلب تقنينًا دقيقًا ورقابة صارمة.
فبين طموح تحقيق العدالة بدقة وسرعة، ومسؤولية حماية الكرامة والحقوق، تظل المعادلة الأصعب: كيف نُسخّر الذكاء الاصطناعي دون أن نفرّط في إنسانيتنا؟

تم نسخ الرابط