مساران متوازيان: خطة نتنياهو لاحتلال غزة والتوصل إلى هدنة

خلال توليه رئاسة الحكومة في الفترة 1992-1995، وصف إسحاق رابين سياسته حيال الفلسطينيين بقوله: "سأمضي في التفاوض معهم كما لو لم يكن هناك عنف، وأحارب كما لو لم يكن هناك مفاوضات".
ووفقًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يبدو أن رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو يعود لتبني السياسة نفسها حالياً تجاه قطاع غزة، فقد وافقت حكومته على خطة لاحتلال غزة، وأعلن الجيش استعداده لتنفيذ المهمة - ولكن بتحفظات من جانب رئيس هيئة الأركان إيال زامير - وفي الوقت نفسه لا يزال نتنياهو مستعداً للعودة للمفاوضات الجارية في الدوحة مع حماس بهدف التوصل لهدنة تضمن الإفراج عن عدد من الرهائن.
دافع نتنياهو للعودة لسياسة ابتكرها رئيس حكومة سابق انتمى للمعسكر المناهض لليمين، يؤكد على الخطوط الاستراتيجية لإسرائيل بغض النظر عن توجه من يجلس على مقعد رئيس الحكومة.
إن الدافع وراء تبني هذه الاستراتيجية يكمن في إدراك نخبة الحكم في إسرائيل تاريخياً لحقيقة صعوبة تحقيق الأمن الإسرائيلي عبر الوسائل العسكرية فقط، وأن احتياج إسرائيل لأن تكون "دولة طبيعية" في المنطقة يلزمها بتقليل الصدام مع المجتمع والقانون الدوليين، اللذين يرفضان منطق فرض الأمر الواقع بالقوة. كما أن تقليل هذا الاحتكاك بالاستمرار في التفاوض مع الخصوم هو، في رؤيتها، الوسيلة الأفضل للدفاع عن سياستها العدوانية، عبر الادعاء بأن "حروبها تستهدف الدفاع عن أمنها".
وفق هذه الاستراتيجية، من المتوقع أن تمضي إسرائيل في هذين المسارين المتوازيين حتى نهاية العام الجاري على أقصى تقدير.
الجدل حول خطة احتلال غزة
منذ موافقة الحكومة الإسرائيلية على الخطة التي قدمها نتنياهو وتستهدف احتلال قطاع غزة في 10 أغسطس 2025، بدا بوضوح أن هناك عراقيل عدة أمام تنفيذها:
1- اعتراض الجيش الإسرائيلي على احتلال القطاع بالكامل لعدة أسباب، أهمها خشية رئيس هيئة الأركان إيال زامير من أن يتسبب الاحتلال في احتكاك أكبر مع ما تبقى من قوات حماس، ليتحول الوضع إلى حرب استنزاف يسقط فيها أعداد كبيرة من الجنود الإسرائيليين، فضلاً عن أن عمليات الجيش الواسعة النطاق داخل القطاع يمكن أن تُعرِّض حياة الرهائن الإسرائيليين لدى حماس للخطر.
2- حسب الخطة، سيتم إخلاء سكان القطاع وحصرهم في مساحة ضيقة لا تتجاوز 25% منه، دون وجود تصور واضح عن تأثير ذلك على نقل المساعدات الإنسانية، خاصة بعد أن تسببت الحملة المستمرة من جانب المجتمع الدولى ضد سياسة التجويع التي انتهجتها إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين، في إجبار نتنياهو على التخلي عن تلك السياسة. وبالتالي، فإن اتساع المناطق التي سيعمل فيها الجيش الإسرائيلي من جهة، وعدم وجود خطة عملية لتوزيع المساعدات الإنسانية من جهة أخرى، يمكن أن يتسبب في إيقاف خطة احتلال القطاع قبل استكمالها تحت ضغط تزايد ظاهرة المجاعة.
3- حسب الخطة أيضاً، فإن تقليل احتمال سقوط أعداد كبيرة من الجنود الإسرائيليين يستلزم إطالة أمد الفترة التي ستنتهي بالاحتلال الكامل للقطاع، والتي يقدرها الجيش بخمسة أشهر على الأقل. ورغم ذلك، يشكك بعض رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في إمكانية تفادى سقوط قتلى من الجنود بأعداد ملموسة مهما كانت التحوطات.
4- إن الفترة المقدرة لإتمام خطة الاحتلال سيتقاطع معها في شهر سبتمبر المقبل اجتماع الدورة السنوية للأمم المتحدة، وحسب وعود العديد من الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن ذلك سيفرض ضغوطاً سياسية هائلة على إسرائيل قد تؤثر على قدرتها على إكمال خطة احتلال القطاع.
5- من المتوقع أن تزداد الاحتجاجات الداخلية في إسرائيل، والمؤيدة لإيقاف الحرب وعقد اتفاق لتحرير الرهائن، في الفترة القادمة، خاصة مع ارتفاع نسبة من يطالبون بإعطاء الأولوية لتحرير الرهائن، ومع دعوة رموز المعارضة للإضراب العام من أجل الضغط على نتنياهو لوقف الحرب مقابل تحرير الرهائن. فعلى سبيل المثال، كتب زعيم التحالف الديمقراطي المعارض يائير جولان (جنرال سابق في الجيش الإسرائيلي) قائلاً: "وفقاً لكل المعايير العسكرية، هُزمت "حماس" فعلاً في سنة 2024. تم القضاء على الكتائب والألوية التابعة لها في القطاع، وجرى شلّ قدرتها على ضرب الجبهة الداخلية الإسرائيلية. قبل نهاية العام الماضي، لم يعد يوجد في القطاع جيش منظّم قادر على تهديد دولة إسرائيل. ومع ذلك، تستمر الحرب، ليس لأسباب أمنية، بل لاعتبارات تتعلق بالبقاء السياسي. يجب إعطاء الأولوية للإفراج عن الرهائن حتى لو كان الثمن هو وقف الحرب".
6- في 17 أغسطس الجاري، دعت افتتاحية صحيفة "هآرتس" أيضاً للإضراب العام بقولها: "هذه المرة، تطلب العائلات أن نخرج جميعاً إلى الشوارع، قبل فوات الأوان. تقع على كل شخص في إسرائيل مسئولية وقف روتين يومه والانضمام إلى المطلب الواحد: وقف الحرب وإنقاذ الأرواح".
7- رغم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان قد صرح بأن المفاوضات مع حماس لم تعد مجدية، إلا أنه عاد ليؤكد أنه لم يؤيد خطة إسرائيل لاحتلال غزة ولم يعارضها أيضاً، تاركاً تقدير الأمر للحكومة الإسرائيلية لاتخاذ قراراتها في هذا الشأن. ومن المرجح أن يثير هذا الموقف المتردد من جانب ترامب القلق لدى إسرائيل، حيث يمكن لترامب – كما هو معتاد – أن يغير من مواقفه فجأة، ولا يريد نتنياهو أن يتعرض لضغوطات محتملة من جانبه أثناء تنفيذ خطة احتلال غزة.
مستقبل خطة احتلال غزة
عملياً، بدأ الجيش الإسرائيلي، رغم ما سبق ذكره من العناصر المُؤطِّرة لجدل غير محسوم حول مدى إمكانية نحاح الخطة، في تنفيذ عملية الاحتلال بتكثيف غاراته على بعض المناطق، وإجبار سكان شمال القطاع على مغادرته. ولكن من غير المتوقع أن يسارع الجيش بتوسيع عملياته لتقصير المدى الزمني للخطة كما يطالب نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتشدد (الوزيران سموترتش، وبن غفير)، حيث صرح رئيس هيئة الأركان إيال زامير في 13 أغسطس الجاري قائلاً أنه سيواصل التعبير عن موقفه المهني المستقل، مضيفاً: "نحن لا نتعامل مع نظريات، بل مع أرواح بشر ودفاع عن الدولة"، وتابع أنه "لن يخاف من التعبير عن رأيه، على الرغم من الانتقادات الحادة التي تلقّاها من وزراء وأعضاء في الكنيست، وحتى من زوجة رئيس الحكومة سارة نتنياهو".
وبحسب أوساط مقربة من زامير، يرى رئيس هيئة الأركان أن عملية احتلال غزة تحتاج إلى تهيئة ميدانية أوسع وضمانات لمرحلة ما بعد الاحتلال، وخصوصاً فيما يتعلق بإدارة المدينة ومنع حدوث فراغ أمني قد تستفيد منه الفصائل الفلسطينية.
يعزز هذا التوجه التقارير التي تتحدث عن ظهور بوادر أمل في أن تقبل حماس بعقد هدنة مؤقتة، مقابل تبادل للرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين لدى إسرائيل، مما سيعنى إيقاف خطة الاحتلال لشهرين. وفى حالة حدوث هذا الاحتمال، قد يشكل ذلك مخرجاً جيداً لنتنياهو على أكثر من صعيد:
• سيكون بوسعه الادعاء بأنه لولا إصراره على البدء في تنفيذ خطة الاحتلال، لما تراجعت حماس عن رفضها لعرض الهدنة، وهو ما يؤكد مبدأه الذى تمسك به منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، والقائم على أن الضغط العسكري هو الشرط الضروري لتحرير الرهائن.
• من شأن تجميد خطة الاحتلال لشهرين كاملين تهدئة المواجهات الدائرة بين الحكومة ورئيس هيئة الأركان إيال زامير، خاصة مع شعور نتنياهو بالقلق في الفترة الماضية بسبب تأثر عدد كبير من قادة الجيش والاستخبارات القدامى بآراء رئيس هيئة الأركان، وتوقيع مئات منهم عريضة تم رفعها لنتنياهو تدعو للتخلي عن خطة احتلال القطاع نهائياً واستبدالها بمفاوضات مع الفلسطينيين تقود إلى تحرير الرهائن، وتجريد حماس من السلاح.
• حال قبول حماس بعقد هدنة مؤقتة، يتوقع نتنياهو أن تقل الضغوط التي تمارسها عليه عائلات الرهائن، وهو ما سينعكس إيجابياً على فرص تهدئة الصراع الداخلى في المجتمع الإسرائيلي.
• يمكن لاحتمال تجميد خطة احتلال غزة أن يجنب نتنياهو أي صدام مفاجئ مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث سبقت الإشارة إلى مواقفه المترددة التي يخشاها أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة قبل أعدائها، لأنه سيكون بوسع ترامب الادعاء بأن سياسته المتشددة تجاه حماس قد شاركت في التوصل إلى اتفاق الهدنة ووقف الحرب كما كان يعد أثناء حملته الانتخابية في العام الماضي.
• قد يؤدي عقد الهدنة ووقف الحرب في غزة لشهرين قادمين إلى تراجع الدول الأوروبية عن تهديدها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، تحت مبرر إعطاء الفرصة للمفاوضات بين ممثلين للفلسطينيين (ليس بالضرورة السلطة التي يقودها الرئيس أبو مازن) وإسرائيل للتوصل إلى تسوية نهائية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ويعنى ذلك رفع العبء عن كاهل نتنياهو وتجنيبه مواجهة غير مطلوبة في المحافل الدولية في مثل هذا التوقيت.
خلاصة ونتائج
يواجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو معضلة صعبة عقب قراره الذي يقضي باحتلال قطاع غزة بالكامل: المواقف المتعارضة لشركائه في الائتلاف، ضغوط عائلات الرهائن، الانقسامات داخل الجيش حول حدود خطة الاحتلال ومداها الزمني، الضغوط الخارجية لوقف العملية، الموقف المتردد من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بين التأييد الضمني للخطة وبين الخوف من إطالة أمد الحرب، أو فشل الخطة مبكراً وما سيرتبه ذلك من انتقادات دولية للولايات المتحدة، وتداعيات ذلك كله على صعيد الهدف الأهم وهو وقف تمدد الصراع إقليمياً، ومنع سقوط الشرق الأوسط بأكمله في حالة من الفوضى يصعب لجمها.
ويبدو أن المخرج الوحيد أمامه هو أن يؤدي شروعه في تنفيذ خطة الاحتلال إلى قبول حماس بعقد هدنة تمتد لشهرين تمنحه (أي نتنياهو) الفرصة لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية المفروضة عليه منذ إعلانه عن نيته احتلال القطاع والدفع في مخطط التهجير لسكانه، وحال تحقق هذا الاحتمال (قبول حماس بالهدنة) سيكون ذلك، وفقاً لرؤية إسرائيل، بمثابة تأكيد لنجاح الاستراتيجية الثابتة بأن العمل على الخطين المتوازيين (استعمال القوة، والانفتاح على التفاوض) هو الوسيلة الأنجح لضمان أمن إسرائيل.