ضغط أم صدام؟: سيناريوهات الخطة الأمريكية لنزع سلاح حزب الله اللبناني

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تسعى واشنطن إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط عبر تمكين إسرائيل من لعب دور “القوة المُنظمة” للمنطقة، مستفيدة من زخم الاتفاقيات الإبراهيمية وتحولات التطبيع العربي، والدعم الأمريكي اللا محدود لاحتلال قطاع غزة، والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، والضربة المؤثرة ضد القدرات النووية الإيرانية.
ووفقًا للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، هذه المقاربة تأتي في سياق رغبة الإدارة الأمريكية بتفريغ جزء من سياستها الخارجية نحو التحديات الكبرى التي تواجهها على الساحة الدولية، من الصين إلى إصرار روسيا على ترسيخ نفوذها في أوكرانيا.
ومن هذا المنطلق، تبدي واشنطن استعجالًا غير مسبوق في حسم ملفات الشرق الأوسط العالقة، وعلى رأسها مسألة نزع سلاح حزب الله، الذي يشكل في نظرها العقبة الأبرز أمام استقرار لبنان وترسيخ التوازن الأمني في المنطقة لصالح دولة الاحتلال.
لبنان، من جانبه يجد نفسه في عين العاصفة، بين مطرقة الضغوط الأمريكية لنزع سلاح حزب الله وسندان الاستهداف الإسرائيلي المستمر للجماعة، وسط تهديدات متصاعدة باندلاع اضطرابات داخلية. وما بين المطرقة والسندان، شهد الاجتماع الثاني للحكومة اللبنانية في 7 أغسطس 2025، انسحاب جميع الوزراء الشيعة بعد رفضهم مناقشة المقترح الأمريكي، واتهم حزب الله وحلفاؤه الحكومة بأنها “ترزح تحت الضغط الخارجي” ومناقشة نزع السلاح طالما أن الهجمات الإسرائيلية على لبنان واحتلالها لعدة مناطق جنوبية مستمر[1]. هذا الموقف يعكس هشاشة الموقف اللبناني أمام تعقيدات داخلية تتعلق بتوازنات السلطة وواقع حزب الله كقوة عسكرية وسياسية. ومع تهديدات الحزب المتكررة بالتصعيد، واستبعاده القاطع لأي نقاش قبل انسحاب إسرائيل، تبدو فرص التقدم ضئيلة، وهو ما يضع مبادرة واشنطن في اختبار صعب بين الواقع الفعلي وحدود الممكن سياسيًا. فهل ستنجح واشنطن في دفع حزب الله لتسليم سلاحه؟
نهج مستمر للإدارات الأمريكية تجاه حزب الله
ترى الولايات المتحدة أن حزب الله يشكل تهديدًا إرهابيًا عالميًا. فقد صنفت إدارة بيل كلينتون الحزب كمنظمة إرهابية أجنبية في عام 1997، كما أدرجت عددًا من أعضائه، بمن فيهم الأمين العام حسن نصر الله، على لائحة “الإرهابيين العالميين المحددين على نحو خاص”، وهو ما وضعهم تحت طائلة العقوبات الأمريكية.[2] في منتصف العقد الثاني من الألفية، قدمت إدارة باراك أوباما مساعدات للجيش اللبناني على أمل تقويض مصداقية حزب الله كأقوى قوة عسكرية في البلاد. لكن العمليات المشتركة بين الحزب والجيش اللبناني للدفاع عن الحدود السورية ضد تنظيم داعش والمسلحين المرتبطين بالقاعدة، جعلت الكونجرس مترددًا في تقديم مزيد من الدعم، خشية أن تصل تلك المساعدات إلى يد حزب الله[3].
وفي عام 2015، أقر الكونجرس “قانون منع التمويل الدولي لحزب الله”، الذي يفرض عقوبات على المؤسسات الأجنبية التي تستخدم الحسابات البنكية الأمريكية لتمويل الحزب. وفي عام 2018، تم تعديل القانون ليشمل أنواعًا إضافية من الأنشطة. كذلك، فرضت إدارة دونالد ترامب عقوبات على بعض أعضاء حزب الله في البرلمان اللبناني، ضمن حملتها الواسعة لـ”الضغط الأقصى” على إيران. وبينما أدت هذه الحملة إلى تعطيل الاقتصاد الإيراني، يرى محللون أن وكلاء إيران، ومن بينهم حزب الله، أصبحوا أكثر اكتفاءً ذاتيًا واستطاعوا الصمود في وجه العقوبات[4].
أما إدارة الرئيس جو بايدن فقد واصلت فرض العقوبات على الأفراد المرتبطين بشبكة تمويل حزب الله، ومن بينهم إبراهيم علي ظاهر، رئيس وحدة الشئون المالية المركزية في الحزب. وفي عام 2021، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على شبكة مالية دولية متهمة بغسل عشرات ملايين الدولارات عبر الأنظمة المصرفية الإقليمية لصالح كل من حزب الله وإيران[5].
محددات الدبلوماسية الأمريكية في لبنان
“يمكن للبنان أن يتعلم من الشرع”، تسلط الكلمات التي قالتها المبعوثة الأمريكية السابقة إلى لبنان، مورجان أورتاجوس، الضوء على عنصرين أساسيين لفهم الديناميكيات السياسية في لبنان: ارتباطها الوثيق بالمسار السياسي السوري، والدور المحوري للدبلوماسية الأمريكية في لبنان. وهما بعدان يزدادان أهمية في ظل السياق الجيوسياسي الإقليمي الحالي. كما جاءت هذه التصريحات في وقت أعلن فيه دونالد ترامب، خلال زيارته إلى الخليج في مايو الماضي عن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، مؤكدًا أن لهذا القرار تأثير اقتصادي مباشر على “بلاد الأرز”؛ إذ يسمح لموانئها وشركاتها وحتى قطاعها المصرفي بالاستفادة من إعادة إعمار سوريا. وهو ما يجعل من لبنان ساحة اختبار لسياسة ترامب في المنطقة من خلال:
زيادة الانخراط الأمريكي في لبنان: اكتسب لبنان أهمية نسبية خلال زيارة ترامب للخليج، ففي كلمته في “منتدى الاستثمار السعودي-الأمريكي”، وصف ترامب لبنان بأنه بلد عند منعطف سياسي كبير، مؤكدًا أن الحكومة الجديدة التي انتخبت مطلع العام تمثل “أول فرصة حقيقية منذ عقود لشراكة أكثر إنتاجية مع الولايات المتحدة”. كما أثبتت القوات المسلحة اللبنانية أنها شريك موثوق للولايات المتحدة حتى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل. بدعم أمريكي، نجحت القوات اللبنانية في طرد تنظيم داعش من لبنان، ومواجهة حزب الله في كل من الكحالة (2023)[6] والطّيونة (2021)[7]، وتعطيل تهريب الكبتاجون المدعوم من نظام الأسد السابق وحزب الله[8]، بل وحماية السفارة الأمريكية في لبنان من محتجين عنيفين مناهضين لأمريكا ومسلحين يحملون شعارات تنظيم داعش طوال فترة حرب إسرائيل على غزة. ومنذ توقيع وقف إطلاق النار، حظيت القوات المسلحة اللبنانية بإشادة من المسئولين الأمريكيين لتقدمها في نزع سلاح حزب الله وتأمين الحدود اللبنانية الإسرائيلية. كما حظيت الحكومة اللبنانية بالتقدير بعد حظرها هبوط شركات الطيران الإيرانية في بيروت، وزيادتها عمليات التفتيش على الرحلات القادمة من العراق، واعتقالها رجلًا وصل من تركيا وبحوزته 2.5 مليون دولار نقدًا كانت مخصصة لحزب الله[9].
تجديد النخب السياسية لصالح واشنطن: تمحورت السياسة الأمريكية في لبنان حول هدف تجديد النخب السياسية ضمن سياق إعادة تشكيل المشهد السياسي الوطني. وقد جرى الانتقال بين فريقي ترامب وبايدن في هذا الملف بقدر من الاستمرارية، وتجلى ذلك في الجهود المنسقة لدعم ترشح قائد الجيش العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية، وهو ما تحقق في 9 يناير 2025.[10] كذلك لعبت إدارة ترامب دورًا محوريًا في عملية تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام[11]؛ حيث سعت واشنطن –عبر مورجان أورتاجوس– إلى استثمار تراجع قوة حزب الله عسكريًا أمام إسرائيل للحد من نفوذه السياسي داخل الحكومة. وقد أبلغت أورتاجوس جوزيف عون، في اجتماع يوم 7 فبراير 2025 (عشية إعلان الحكومة) الخطوط الحمراء للبيت الأبيض: “لن يُسمح لحزب الله بعد اليوم بترهيب اللبنانيين، بما في ذلك من خلال مشاركته في الحكومة”.
دعم جوزيف عون وكسر الثلث المعطل: رغم أن بعض الحقائب الوزارية أسندت لشخصيات مقربة من الحزب وحلفائه، فإن الضغط الأمريكي حال دون تشكيل “الثلث المعطل”؛ أي منح فئة سياسية واحدة القدرة على إسقاط الحكومة. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها كسر هذا العرف منذ أن فرضه حزب الله عقب اتفاق الدوحة عام 2008.[12] واقتصاديًا، لعبت وزارة الخزانة الأمريكية دورًا رئيسيًا في اختيار حاكم مصرف لبنان الجديد، كريم صويحد، عبر تحديد مواصفات المنصب والتشاور مع رئاسة الحكومة اللبنانية، مركزةً على موقف المرشحين من ملف حزب الله[13]. هذا النهج التدخلي يعكس رغبة واشنطن في التأثير على مفاصل القرار التقني للحد من نفوذ الحزب داخل الدولة.
توسيع نطاق نزع السلاح: بصفتها عضو في لجنة متابعة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، جعلت الولايات المتحدة من نزع سلاح الجماعات المسلحة في لبنان حجر الأساس لدبلوماسيتها هناك. وقد شدد المبعوثان الأمريكيان أورتاجوس وباراك أن السلطات اللبنانية لا تزال أمامها “الكثير لتفعله”. ورغم أن جوزيف عون أكد أن الجيش اللبناني “طهر من 85٪ إلى 90%” من المنطقة جنوب نهر الليطاني، فإن واشنطن تطالب بنزع سلاح حزب الله على مستوى البلاد كلها[14].
وتؤكد مؤشرات عدة بدء عملية تفكيك السلاح في الجنوب –منها إعلان بعثة الأمم المتحدة “اليونيفيل” عن تدمير 225 مخزن أسلحة- لكن واشنطن ترى أن العملية لا تزال أقل من المطلوب. ويواجه هذا المسار عقبتان رئيسيتان: الأولى تقنية، بسبب ضعف تجهيزات الجيش اللبناني واعتماده الكبير على الدعم الأمريكي، والثانية سياسية؛ إذ يرفض حزب الله أي نزع لسلاحه خارج نطاق الجنوب، خصوصًا بعد أن اتهم إسرائيل بخرق الاتفاق عبر عدم الانسحاب الكامل من خمسة مواقع استراتيجية واستهداف عناصره[15].
خطة نزع سلاح حزب الله
زار المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا ولبنان، توم باراك، بيروت في 19 يونيو 2025، حاملًا “ورقة باراك”، وهي خريطة طريق أمريكية مفصلة من ست صفحات تطالب بنزع سلاح حزب الله وكافة الفصائل المسلحة في لبنان قبل نهاية نوفمبر 2025. وتبع هذه الزيارة، في منتصف يوليو، تسليم الحكومة اللبنانية إنذارًا رسميًا بضرورة إصدار قرار تنفيذي يلزم حزب الله بتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني. وردت حكومة الرئيس جوزيف عون بوثيقة من سبع صفحات لم تصل إلى مستوى الالتزام الكامل، في ظل تخوفها من اندلاع صدام داخلي مع الحزب الذي يحتفظ بقدرات قتالية كبيرة وقاعدة شعبية واسعة، لا سيما في الشارع الشيعي[16].
وفي أوائل أغسطس، عاد باراك ليقدم ما وصف بـ”المقترح النهائي” لحل شامل بين لبنان وإسرائيل بعنوان: “تمديد وتثبيت إعلان وقف إطلاق النار – نوفمبر 2024″، يتضمن نزع سلاح حزب الله على مراحل، مقابل انسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلة، ودعم مالي دولي لإعادة الإعمار، مع تأكيده أن الخطة لا تهدف إلى تهميش الحزب سياسيًا، بل تستجيب للتحولات الإقليمية المتسارعة. وقد أثار المقترح الأمريكي جدلًا واسعًا داخل الحكومة اللبنانية، وخصصت جلسة في 6 أغسطس لمناقشة مضمونه، وانتهت بتكليف الجيش اللبناني بوضع خطة عاجلة لحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية 2025، على أن تعرض على مجلس الوزراء للمصادقة عليها قبل 31 أغسطس[17].
وفيما يلي تفاصيل الخطة الأمريكية لنزع سلاح حزب الله بحلول نهاية عام 2025[18]:
البند الأول: يحدد التزام لبنان بتنفيذ اتفاق الطائف لعام 1989 (الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية)، ودستوره، وقرارات مجلس الأمن الدولي -خاصة القرار 1701 لعام 2006، الذي أسس وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. كما سيتخذ لبنان الخطوات اللازمة لتأكيد السيادة الكاملة على أراضيه، تعزيز المؤسسات الحكومية الشرعية، ضمان السلطة الحصرية لاتخاذ قرارات الحرب والسلم، وضمان بقاء جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة.
البند الثاني: يفرض وقف الأعمال العدائية -برًا وبحرًا وجوًا- من خلال تدابير منظمة تؤدي إلى حل شامل ودائم.
البند الثالث: يدعو إلى تفكيك جميع الجهات المسلحة غير الحكومية، بما في ذلك حزب الله، شمال وجنوب نهر الليطاني، مع دعم دولي مناسب للجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي.
البند الرابع: ينص على نشر القوات العسكرية اللبنانية في المناطق الحدودية والمناطق الداخلية المركزية، بدعم دولي.
البند الخامس: يتطلب انسحاب إسرائيل من خمس نقاط استراتيجية في المنطقة الأمنية اللبنانية التي لا تزال تحت سيطرتها بعد الحرب الأخيرة مع حزب الله.
البند السادس: يتناول عودة السكان إلى منازلهم وممتلكاتهم في البلدات والقرى الحدودية.
البند السابع: يشمل انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية ووقف جميع الأعمال العدائية برًا وجوًا وبحرًا.
البند الثامن: يدعو إلى ترسيم دائم ومحدد بوضوح للحدود الدولية بين لبنان وإسرائيل.
البند التاسع: ينص على ترسيم دائم للحدود بين لبنان وسوريا.
البند العاشر: يقترح عقد قمة اقتصادية بمشاركة الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، قطر، وغيرها، لدعم اقتصاد لبنان وجهود إعادة الإعمار.
البند الحادي عشر: يضمن دعمًا دوليًا لقوات الأمن اللبنانية -خاصة الجيش- من خلال المساعدات العسكرية اللازمة لتنفيذ الاتفاق وحماية البلاد.
مراحل التنفيذ ومشروطياتها
المرحلة التحضيرية: مدتها خمسة عشر يومًا، توافق خلالها الحكومة اللبنانية رسميًا على أهداف الوثيقة وتلتزم بها من خلال عملية دستورية. يتضمن ذلك التعهد بنزع سلاح حزب الله والجهات المسلحة غير الحكومية الأخرى بالكامل بحلول 31 ديسمبر 2025. سيؤدي الالتزام إلى زيادة التعاون مع صندوق النقد الدولي، وزيادة المساعدات الدولية لإعادة الإعمار، وحوافز الاستثمار الاقتصادي.
المرحلة الأولى: ستوقف إسرائيل جميع الأنشطة العسكرية برًا وبحرًا وجوًا. وستصبح البنية التحتية العسكرية لحزب الله -بما في ذلك الأنفاق تحت الأرض، والمواقع العملياتية، ومستودعات الأسلحة- متاحة للتفتيش. ستضغط الولايات المتحدة وفرنسا على إسرائيل لتنفيذ الوثيقة بالكامل. مع استئناف الاجتماعات الإشرافية كل شهرين. كما ستضمن هذه المرحلة خطوات إضافية تشمل:
تقديم تقارير عسكرية أولية عن مواقع القوات الإسرائيلية واللبنانية.
إنشاء الجيش اللبناني لحوالي 15 نقطة حدودية أولية جنوب نهر الليطاني بناءً على خريطة نشر أعدها قيادة الجيش اللبناني.
إبلاغ إسرائيل للبنان -عبر الصليب الأحمر الدولي- بعدد وأسماء وأوضاع السجناء اللبنانيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية لتسهيل إطلاق سراحهم.
ستبدأ المفاوضات -تحت إشراف الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة- لحل المناطق المتنازع عليها وترسيم الحدود رسميًا بين البلدين.
سيتعاون الرئيس جوزيف عون ورئيس البرلمان نبيه بري مع جميع الفصائل السياسية اللبنانية، بما في ذلك حزب الله، لضمان التزام لبنان الرسمي بالوثيقة، وخطة نزع السلاح، وجدولها الزمني.
سيتم التركيز بشكل خاص على النقل الفوري للأسلحة الثقيلة -بما في ذلك الصواريخ والطائرات بدون طيار- إلى الجيش اللبناني من المناطق شمال وجنوب نهر الليطاني، وفقًا لإعلان نوفمبر 2024.
المرحلة الثانية: التي تستمر من 15 إلى 60 يومًا، تشمل التنفيذ الأولي لخطة نزع السلاح. ستكون مصحوبة بإعلانات رسمية من الدول الصديقة تدعم القمة الاقتصادية المخطط لها في خريف 2025. خلال هذه المرحلة، ستنسحب إسرائيل من ثلاث من النقاط الاستراتيجية الخمس، مع استلام القوات اللبنانية للمناطق التي تم إخلاؤها وعودة السكان إلى قراهم.
المرحلة الثالثة: من 60 إلى 90 يومًا، سيكمل حزب الله انسحابه العسكري الكامل من جنوب نهر الليطاني. ثم ستنسحب إسرائيل من النقطتين الأخيرتين؛ مما يسمح للقوات اللبنانية بتولي السيطرة.
المرحلة الرابعة والأخيرة: التي تمتد من 90 إلى 120 يومًا، تدعو إلى تفكيك الأسلحة الثقيلة المتبقية لحزب الله، بما في ذلك الهاون، قاذفات الصواريخ، الصواريخ أرض-جو وأرض-أرض، الطائرات بدون طيار، وأي أسلحة قادرة على التسبب في خسائر جماعية. تشمل هذه المرحلة أيضًا إزالة البنية التحتية العسكرية لحزب الله مراكز القيادة، الأنفاق، ومرافق تخزين الصواريخ. ستنسحب القوات الإسرائيلية بالكامل من الأراضي اللبنانية، وستتولى الأجهزة الأمنية اللبنانية السيطرة الكاملة على جميع المناطق شمال وجنوب نهر الليطاني.
دوافع الضغوط الأمريكية
هناك عدد من الدوافع التي تقود الولايات المتحدة في مساعيها لنزع سلاح حزب الله:
استثمار الانكسار: يقدر البنك الدولي أن المواجهات بين إسرائيل وحزب الله كلفت لبنان نحو 8.5 مليار دولار بين عامي 2023 و2024، فضلًا عن حاجته الكبيرة للمساعدات بسبب أزمة اقتصادية مستمرة منذ سنوات وسوء الإدارة السياسية وانفجار مرفأ بيروت عام [19]2020. وبالتالي فإن الخسائر التي تكبدها حزب الله تجعل إنهاء النزاعات المتكررة بين إسرائيل ولبنان أمرًا ممكنًا، خاصة مع استمرار الضغط العسكري الإسرائيلي والضغط الاقتصادي الأمريكي. فقد خسر الحزب خلال حربه مع إسرائيل 2023-2024 جزءًا كبيرًا من قدراته العسكرية والمالية، بما في ذلك مقتل أمينه العام السيد حسن نصر الله، واغتيال عدد من قادته الميدانيين البارزين، وتدمير أو استنزاف جزء من ترسانته الضخمة من الصواريخ. كما أدى سقوط الرئيس السوري بشار الأسد في ديسمبر 2024 إلى قطع خط الإمداد المباشر بين الحزب وحليفه الرئيسي إيران؛ مما صعب عليه التعافي بعد الحرب. وكشفت الحملة الأمريكية-الإسرائيلية المشتركة ضد البرنامج النووي الإيراني في يونيو 2025 عن استمرار ضعف حزب الله؛ إذ لم يشارك في فتح جبهة للتخفيف عن إيران.[20]
استغلال ضعف الدولة اللبنانية: كلفت واشنطن الحكومة اللبنانية والجيش بوضع خطة لنزع سلاح حزب الله، وهو ما يمثل بداية لمسار تصادمي جديد في لبنان، لا ينبع من معارضة داخلية أو انشقاقات شيعية، بل من إملاءات خارجية واضحة. رفض الحزب للخطة، كما عبر عنه نعيم قاسم، يعمق الانقسام ويزيد احتمال التصعيد. في هذا السياق، أعلنت الولايات المتحدة أنها لن ترسل المبعوث الإقليمي توماس باراك مجددًا إلى بيروت، ولن تمارس ضغطًا على إسرائيل لوقف عملياتها العسكرية أو الانسحاب من الأراضي اللبنانية. وقال باراك في 27 يوليو: إن “مصداقية الحكومة اللبنانية تعتمد على قدرتها على تحويل المبادئ إلى أفعال”، مؤكدًا أن بقاء سلاح حزب الله يقوّض أي التزام سياسي. وقد تلقت الحكومة اللبنانية إنذارًا نهائيًا يقضي بأن فشلها في دفع الحزب إلى تسليم ترسانته سيؤدي إلى وقف الدعم الأمريكي في جهود إقناع إسرائيل بوقف عملياتها داخل لبنان. وبينما يشدد المسئولون الأمريكيون على ضرورة مواصلة الضغط حتى التنفيذ الكامل لنزع السلاح، حذر دبلوماسيون لبنانيون من أن أي التزام علني قد يشعل توترات طائفية، في بلد لا يزال حزب الله يحظى فيه بقاعدة شعبية واسعة داخل الطائفة الشيعية.[21]
إعادة رسم المنطقة عبر تفكيك المقاومة: لا يزال مصير لبنان متشابكًا بقوة مع مصير سوريا وفلسطين؛ حيث يؤثر أي حل مفروض للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على دمشق وبيروت؛ مما يضع حكومتيهما أمام خيارات وجودية تتمحور حول تسليم الأسلحة والقدرات العسكرية. يشكل هذا المطلب جوهر الجهود الأمريكية لتحويل توازن القوى الإقليمي لصالح إسرائيل، عبر تفكيك آخر معاقل المقاومة ضد التوسع الإسرائيلي، وفي مقدمتها حزب الله. كما يروج باراك لدمج سوريا ولبنان في اتفاقيات إبراهيم، التي تعد تطبيعًا للعلاقات مع دولة الاحتلال تحت ستار السلام الإقليمي. يعكس هذا النهج استراتيجية أمريكية أوسع لإعادة رسم حدود المنطقة، مستغلة ضعف حزب الله بعد حرب 2024 وسقوط نظام الأسد، لفرض تطبيع دبلوماسي وإضعاف محور المقاومة المدعوم من إيران، مع تجاهل المطالب اللبنانية بإنهاء الانتهاكات الإسرائيلية ودعم إعادة الإعمار[22]. ولكن مع استمرار إسرائيل في عملياتها العسكرية في الأراضي الفلسطينية فإن أي مسار تطبيع لا يأخذ في الحسبان مستقبل الدولة الفلسطينية سيكون مهددًا بزعزعة الاستقرار الإقليمي.
نهج توم باراك: تبنى باراك نهجًا مغايرًا لأسلافه في معالجة ملف نزع سلاح حزب الله. فقد اتبعت نائبة المبعوث السابقة مورجان أورتاجوس نهجًا تصادميًا؛ إذ طالبت الحكومة اللبنانية بجدول زمني واضح لتسليم سلاح الحزب وتفكيك ذراعه المالية ممثلة بـ”مؤسسة القرض الحسن”، بالإضافة إلى نزع سلاح المخيمات الفلسطينية الـ12، وقوبلت هذه المطالب برفض رسمي لبناني ومعارضة شديدة من حزب الله؛ مما أدى إلى فشل الجهود. وقد خلفها باراك، الذي اعتمد أسلوبًا أكثر مرونة، قائلًا: إن على لبنان نفسه أن يبتكر حلًا مناسبًا لمسألة سلاح حزب الله. طلب باراك من الحكومة اللبنانية تقديم رؤيتها الخاصة لكيفية التعامل مع هذه القضية. ويعكس هذا التحول، من المواجهة المباشرة إلى الدبلوماسية المرنة القائمة على العلاقات الشخصية والتفاهم الإقليمي[23]. وتضمنت اقتراحاته:
التمييز بين أجنحة حزب الله: اقترح باراك التمييز بين الجناحين السياسي والعسكري لحزب الله، في خطوة اعتبرها البعض تمهيدًا لإمكانية إجراء مفاوضات مباشرة بين واشنطن والحزب. إلا أن هذا الطرح قوبل برفض واضح من وزارة الخارجية الأمريكية؛ حيث أكد البيت الأبيض أن الولايات المتحدة لا تميز بين جناحي حزب الله، وتعتبره تنظيمًا إرهابيًا موحدًا، وهو ما جدده وزير الخارجية مارك روبيو بقوله: “هدفنا في لبنان هو بناء دولة قوية قادرة على مواجهة حزب الله ونزع سلاحه، ونحن لا نفصل بين جناحيه السياسي والعسكري، بل نراه كما هو: منظمة إرهابية أجنبية[24]“.
نزع السلاح الانتقائي: أشار باراك إلى أن الحكومتين الأمريكية واللبنانية قلقتان بشكل رئيسي من أسلحة حزب الله التي تهدد إسرائيل. هذا يعني أن حزب الله قد يسمح له بالاحتفاظ بأسلحة أخرى وهو نهج قد يوفر لحزب الله والحكومة اللبنانية مخرجًا مشرفًا من الجمود الحالي.
سيناريوهات وانعكاسات إقليمية
السيناريو الأول: ضغط سياسي اقتصادي مشروط
ستركز واشنطن في هذا السيناريو على استخدام القنوات الرسمية وتحركات المبعوث توم باراك لدفع الحكومة اللبنانية نحو الالتزام بنزع سلاح حزب الله، وفق الجدول زمني المعلن في الخطة. يتزامن مع ذلك انسحاب جزئي للقوات الإسرائيلية من بعض النقاط الحدودية، ووقف الغارات الجوية، وترسيم الحدود، مقابل خطوات تدريجية من الحزب لتقليص ترسانته. تراهن الإدارة الأمريكية في هذا السيناريو على الانقسام الداخلي اللبناني واستعداد بعض القوى السياسية لتبني هذه الخطوة تحت شعار “استعادة السيادة”، بحيث تتحمل الدولة المسئولية عن التنفيذ بدلًا من أن يبدو الأمر مفروضًا من الخارج. واقتصاديًا، ستربط الولايات المتحدة أي دعم مالي دولي أو خليجي للبنان، سواء من صندوق النقد الدولي أو المؤسسات الاستثمارية، بتنفيذ خطة نزع السلاح أو على الأقل الحد من القدرات العسكرية للحزب. يأتي ذلك مع تشديد العقوبات على شخصيات ومؤسسات مرتبطة بالحزب، والتضييق على قنوات تمويله. الهدف هو خلق بيئة اقتصادية خانقة تدفع الحزب والحكومة اللبنانية إلى القبول بالشروط الأمريكية لتخفيف الضغط الاقتصادي الهائل.
السيناريو الثاني: تصعيد عسكري مدفوع بفشل الدبلوماسية
في حال أن فشلت الحكومة اللبنانية تحت الضغط الأمريكي في التوصل إلى إجماع حول نزع سلاح حزب الله، ومع استمرار رفض الحزب تسليم سلاحه وتكثيف استعداداته الميدانية عبر إنشاء أربعة مخازن لوجستية في مناطق متعددة، بعضها في بيئات مسيحية، وتوزيع مساعدات وإمدادات على القرى الشيعية في الشمال والبقاع تحسبًا لاندلاع مواجهة قريبة،[25] ستتخذ إسرائيل هذا الفشل ذريعة لشن عمليات عسكرية واسعة ضد مواقعه في الجنوب والبقاع وبيروت. هذا التصعيد قد يحدث بالتزامن مع عدم تجديد ولاية اليونيفيل في أغسطس الجاري أو منحها صلاحيات إضافية؛ مما يترك فراغًا أمنيًا يسهل على إسرائيل تنفيذ ضرباتها. خاصة أن غياب اليونيفيل أو تقليص صلاحياتها سيجعل الحدود الجنوبية أكثر هشاشة؛ الأمر الذي قد يدفع الرأي العام اللبناني إلى اعتبار نزع السلاح السبيل الوحيد لتجنب مواجهة واسعة مع إسرائيل.
ستبدأ إسرائيل بضرب مخازن الصواريخ ومراكز القيادة في الجنوب والبقاع، وتمتد إلى الضاحية الجنوبية لبيروت. الأهداف المعلنة ستكون “منع الحزب من تعزيز قدراته الصاروخية” و”إعادة فرض الردع”، لكن الهدف غير المعلن يتمثل في إضعاف الحزب سياسيًا وإجبار الدولة اللبنانية تحت ضغط الخسائر على الدخول في مفاوضات برعاية أمريكية لنزع سلاحه أو تحجيمه. في هذا السيناريو، تتحول واشنطن إلى لاعب خلف الكواليس، تدير إيقاع التصعيد عبر دعم الموقف الإسرائيلي سياسيًا، وتعليق أي مساعدات دولية للبنان إلى حين اتخاذ خطوات ملموسة ضد الحزب. هذا المسار قد يقود إلى مواجهة شاملة، نزوح مئات الآلاف من المدنيين، وانهيار إضافي في مؤسسات الدولة؛ مما يخلق بيئة ضاغطة قد تستغلها الولايات المتحدة لإعادة رسم التوازنات الأمنية والسياسية في لبنان بما يتوافق مع مصالحها الإقليمية.
السيناريو الثالث: صدام داخلي (حرب أهلية محدودة)
في هذا السيناريو، تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا متزايدة على الحكومة اللبنانية لاعتماد الجدول الزمني في الخطة الأمريكية، مدعومة بموقف متطابق من بعض الدول العربية والاتحاد الأوروبي، ومع إيعاز غير مباشر لإسرائيل بتكثيف الضربات المحدودة على مواقع الحزب في الجنوب والبقاع. وبموجب هذه الضغوط، تعلن الحكومة اللبنانية خطة عاجلة لحصر السلاح بيد الدولة خلال أشهر؛ مما يثير رفضًا قاطعًا من حزب الله وحركة أمل اللتين تتهمان الحكومة بتنفيذ أجندة أمريكية – إسرائيلية، وتبدآن تحريك الشارع الشيعي. سرعان ما تندلع اشتباكات متفرقة بين الجيش وعناصر مسلحة في بعض المناطق، فيما تزيد الغارات الإسرائيلية من تعبئة القاعدة الشعبية للحزب خلف قيادته. فرغم ضعفه الحالي، فلا يزال حزب الله منظمة قوية تضم عشرات الآلاف من العناصر المسلحة تحت قيادته. وقد يؤدي تضييق الخناق عليه إلى حد التخلي عن سلاحه إلى صدامات عنيفة مع قوات الأمن اللبنانية، وربما حتى إلى حرب أهلية، مع أن حزب الله لا يبدو مهتمًا بذلك في هذه المرحلة. وقد بدأت مؤشرات هذا السيناريو مبكرًا، فقد خرجت مظاهرات مؤيدة لحزب الله وحركة أمل في مناطق مختلفة، من بينها بيروت وجنوب لبنان ومنطقة البقاع الشرقية، تطال الحكومة بالتراجع عن نزع سلاح الحزب[26].
ختامًا، مع تصعيد الولايات المتحدة لسياستها الهادفة إلى نزع سلاح حزب الله، تأتي سياسة الإدارة الأمريكية ضمن نهج استمراري هدفه استغلال تراجع قوى “محور المقاومة” لإعادة تشكيل المشهد السياسي اللبناني ودمجه في نظام إقليمي جديد يضمن المصالح الأمنية والاستراتيجية لدولة الاحتلال. هذا التوجه يعكس مطلبًا أمريكيًا ملحًا لـ “تحييد” نفوذ الجماعة المسلحة وإعادة ترسيخ سيادة الدولة اللبنانية. السيناريو المرجح في هذه الحالة هو أن نزع سلاح حزب الله لن يتم عبر مواجهة عسكرية شاملة مباشرة، بل من خلال مقاربة متعددة المسارات تجمع بين: تصعيد الضغطين الاقتصادي والسياسي على لبنان لزيادة تكلفة استمرار حزب الله في حمل السلاح، وربط أي دعم أو مساعدات دولية بإجراءات تقيد نفوذه العسكري، إضافة إلى تنفيذ عمليات استنزاف عبر الحدود مع إسرائيل لفرض واقع أمني يظهر أن الاحتفاظ بالسلاح مكلف وغير مستدام. في المحصلة، يتصاعد الضغط لتحقيق نتائج سريعة وملموسة، بهدف دفع لبنان إلى التحرر من حالة التردد في مواجهة تعقيدات نزع سلاح حزب الله، والتخلي عن التصورات القديمة التي تجاوزتها الأحداث، مع بقاء احتمال تحرك إسرائيلي أحادي لمعالجة المسألة إذا استمرت المقاومة اللبنانية للمطالب الأمريكية.