عاجل

لغة المصالحة ولعبة السياسة الدولية.. في عالم اليوم، حيث تتشابك المصالح وتتقاطع الرؤى، تبدو السياسة الدولية كأنها لعبة معقدة تتطلب من الدول والشعوب فهماً عميقاً ودقيقاً للواقع الراهن. ليست السياسة مجرد صراع على النفوذ أو سيطرة، بل هي أيضاً لغة المصالحة، التفاهم، والتفاوض، رغم ما يعترضها من تحديات وصراعات.

في هذه اللعبة، تتداخل المصالح الوطنية مع الضغوط الدولية، ويتوجب على شعوب العالم، وخاصة في البلدان النامية، أن تدرك آليات هذه اللعبة، لتتمكن من المساهمة بفعالية في صياغة مستقبلها، بعيداً عن الاستسلام للهيمنة أو الانكفاء على الذات.

إن فهم اللعبة السياسية الدولية ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة حتمية، لأن غياب الوعي بها قد يُعرّض الدول والمجتمعات لمخاطر الفقر والتبعية، ويحول إمكانياتها إلى أدوات مستهلكة في صراع الكبار.

 


**خلفية تاريخية**

من الاستعمار التقليدي إلى الهيمنة الجديدة

شهد التاريخ الاستعماري الكلاسيكي احتلالًا مباشرًا من قِبل قوى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، أسفر عن نهب واسع للموارد وفرض ثقافات ولغات المستعمرين. رغم انتهاء الاستعمار الرسمي، فإن هذه الهيمنة لم تختفِ، بل تحولت إلى أشكال جديدة عبر أدوات مالية وسياسية وعسكرية، تعيد إنتاج حالة الاستعباد والهيمنة بأدوات معاصرة.

سياسات التجويع ونهب الثروات

تتعرض دول العالم النامي، الغنية بالموارد، لسياسات ممنهجة لإفقارها وتجويع شعوبها، من خلال التحكم في أسواقها ومواردها وفرض سياسات اقتصادية تجعلها تعتمد على الخارج، بينما تُترك لمواجهة الفقر والأمراض والجوع. في بعض الحالات، تصبح هذه الدول ساحات لتجارب نووية وطبية، كما جرى في اليابان وفيتنام والجزائر، حيث لا تزال الآثار الصحية والبيئية قائمة حتى اليوم.

ما حدث في العراق من حصار وتدمير ممنهج، وما مرت به أفغانستان من حروب استنزافية طويلة منذ 1979، كلها نماذج صارخة لسياسات فرض المعاناة عبر الحروب والحصار والدمار، بإشراف قوى كبرى.

**القضية الفلسطينية: استمرارية الاستعمار والظلم المستمر**

تُعد القضية الفلسطينية أقدم وأبرز نموذج على الاستعمار المعاصر والظلم الذي ما زال يمارس منذ أكثر من سبعين عامًا. رغم وجود عشرات القرارات الدولية التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحقوقه الوطنية، فإن هذه القرارات تُتجاهل بشكل ممنهج، بينما يستمر الاحتلال الإسرائيلي بدعم مباشر من الولايات المتحدة وأغلب الدول الغربية.

الفلسطينيون يعيشون تحت وطأة القتل، والتهجير القسري، والتجويع، وسياسات الاستيطان التي تهدف إلى تقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية وطمس هويتهم الوطنية. كل هذه الجرائم ترتكب في ظل صمت دولي مخزي، وتحت شعار "السلام" الذي بات غطاءً لتصفية القضية الفلسطينية وإعادة تشكيلها وفق مصالح القوى الكبرى.

تؤكد هذه القضية أن لعبة السياسة الدولية ليست سوى استمرارية لمشاريع استعمارية بالية تتخفى خلف شعارات مزيفة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتفضح الازدواجية في معايير المجتمع الدولي.


**إشعال الحروب وتغيير الأنظمة: استراتيجية الهيمنة بالقوة**

تتجسد السياسة العسكرية في فرض تغيير الأنظمة بالقوة تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، كحالة العراق وأفغانستان، اللتين شهدتا حروبًا مدمرة ودمارًا للبنى التحتية وملايين الضحايا.


**الصراعات الراهنة والتحالفات الجديدة**

تشهد أوكرانيا صراعًا مسلحًا مدفوعًا بالتصعيد الأمريكي-الغربي ضد روسيا، في محاولة لمنع عودتها قوة دولية مؤثرة. بينما تتقدم الصين في الاقتصاد والتكنولوجيا، مع تحالفات دولية بديلة مثل مجموعة البريكس التي تسعى لإنهاء الهيمنة الأمريكية، مما يخلق مشهدًا دوليًا متعدد الأقطاب.


**الإنفاق العسكري مقابل التنمية الإنسانية**

يُصرف سنويًا تريليونات الدولارات على التسلح ونشر الحروب، بينما يعاني الملايين من المجاعات والأمراض التي يمكن علاجها بسهولة. هذا التفاوت يظهر تناقضًا صارخًا بين أولويات القوى الكبرى، حيث تتحول الحروب إلى صناعة مربحة، وتُترك التنمية الحقيقية لتصبح حلمًا بعيد المنال.


**مفارقة المصالح الدولية والتناقض مع القيم الإنسانية**

ما هي هذه المصالح الدولية التي ترفع شعارات "فن الممكن" والسياسة الواقعية، بينما تُترك شعوب بأكملها تعاني من الجوع والموت والحروب؟ وكيف يمكن للسياسة الدولية أن تدعم في الوقت نفسه ظواهر ومعتقدات تتناقض بشكل صارخ مع القيم السماوية والإنسانية التي توحدنا جميعًا؟

تحت شعارات حرية التعبير والديمقراطية، يُسمح أحيانًا لنشر أفكار وممارسات تفرّق الشعوب، وتزرع الكراهية والعنف، وكأنها أداة لإضعاف النسيج الاجتماعي وتعزيز الفوضى.

هذا التناقض العميق يجعلنا نستغرب ونتساءل: في أي زمن نحن؟ وفي أي كون نعيش، حيث تُقدم القيم الإنسانية والروحية الكبرى ككبش فداء لمصالح سياسية ضيقة؟


**إطار تحليلي**

اللعبة الدولية كنظام للرأسمالية المالية العالمية

اللعبة الدولية ليست صراعًا عاديًا بين دول، بل هي نظام عالمي مترابط متكامل تحكمه آليات الرأسمالية المالية الحديثة، التي تصوغ قواعد الهيمنة والسيطرة.

اقتصاد الريع يحول موارد الدول النامية إلى سلعة تُباع بثمن بخس لرأس المال العالمي، بينما تعود هذه الدول لاستيراد منتجاتها بأسعار مرتفعة.

التبعية التقنية والمعرفية تعيق تطوير اقتصاد مستقل وطني.

الحروب بالوكالة تفتيت الدول وتقسيمها لفرض السيطرة.

النخب السياسية المتواطئة التي تحمي مصالح قوى خارجية أو مصالح شخصية على حساب الشعب.

**أسباب استمرار التبعية**

ضعف مؤسسات الدولة الوطنية.

غياب مشاريع تنموية حقيقية واستبدالها بسياسات ترقيعية.

ضعف الثقافة السياسية والمجتمع المدني.

سياسات اقتصادية تركز على مصالح فئات ضيقة.

تهميش قطاعات واسعة من المجتمع.
**رؤية جديدة للخروج من الأزمة**

1. اقتصاد وطني ذي سيادة يعتمد على الذات، الصناعة المحلية، والابتكار.


2. إعادة تشكيل النخب الوطنية لتمثيل الشعب بشفافية.


3. تعزيز التعليم والبحث العلمي المرتبط بالهوية والتنمية.


4. بناء تحالفات إقليمية قوية لتقوية الموقف السياسي والاقتصادي.


5. دبلوماسية متعددة الأقطاب وعدم الانحياز الأعمى.


6. الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية لتعزيز الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي.


**التساؤلات الجوهرية**

هل بالضرورة أن تبقى هناك دول قوية وأخرى ضعيفة كمثل البائع والمستهلك؟

هل تبقى التنمية والازدهار حكرًا على شعوب معينة؟

ألم نكن أجدر بخيراتنا لبناء أنفسنا؟

لماذا يموت شبابنا تحت القوارب هربًا من الواقع؟

إذا كان حكامنا دكتاتوريون، فلماذا تُفرض علينا الحصارات والفوضى؟

متى نصل إلى تعليم، صحة، بيئة نظيفة، فرص عمل، ومستقبل كريم؟


**نقد الثقافة والنخب**
إلى متى يستمر المثقفون والنخب الهائمة في الدفاع عن الثقافة والسياسة الغربية من برج عاجي، وهم سبب من أسباب تأخرنا؟ هل النموذج الغربي اقتصادياً واجتماعياً هو الحل لنا؟ أم أنه نموذج لهم، ونحن مجرد متفرجين؟


**كيف ننتج الحلول؟ من وعي الإنسان إلى نهضة الوطن**

لا يمكن لأية أمة أن تنهض وتنطلق إلى مصاف الأمم الحرة والمتقدمة، إلا إذا بدأت من صلب الإنسان ومجتمعه، عبر بناء المعرفة والوعي الحقيقي. فالتعليم الذي يغذي العقل، وينمي التفكير النقدي، ويحفز الابتكار، هو القاعدة الأولى لأي نهضة تنموية حقيقية. ليس التعليم مجرّد كلمات محفوظة، بل هو سلاح الإنسان لتحرير ذاته، ومفتاح فتح أبواب المستقبل بيد قوية.

وفي ظل غياب التعليم والمعرفة، وتكبل الشعوب بالديون المرهقة والمساعدات التي لا تُبنى إلا على التبعية، تصبح شعوبنا حبيسة دائرة مفرغة لا تنتهي من الفقر والجهل والمرض. هنا يكمن التحدي الأكبر: كيف نحرر اقتصادنا من التبعية، ونبني مؤسسات وطنية شفافة، تُعطي المواطن حقه في الصحة والتعليم والعمل الكريم؟

إن بناء اقتصاد وطني حقيقي، يستثمر ثرواته المحلية ويعتمد على الصناعات الصغيرة والمتوسطة، هو الطريق الوحيد لتوفير فرص العمل، وإيقاف نزيف الهجرة التي تُفرّغ أوطاننا من شبابها المبدع، ليكونوا أدوات بناء في أماكن أخرى لا تعرف لهم قيمة أو حق المواطنة.

ولن يكون ذلك ممكناً دون إعادة بناء المؤسسات الوطنية، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، وتطوير البنية التحتية التي تخلق فرص عمل وتنقل البلاد نحو المستقبل بثقة. كما يجب تمكين الشباب والمجتمع المدني ليشاركوا بفاعلية في صناعة القرار وصياغة السياسات التي تصب في صالح الوطن والمواطن.

على المستوى الدولي، لا بد من التوجه إلى تحالفات إقليمية ذكية، ودبلوماسية متعددة الأقطاب توازن بين مصالح القوى العالمية وتستثمر تنافسها لصالح التنمية. ولا بد من إدارة مديونية حكيمة تركز على المشاريع ذات العائد الحقيقي، بعيداً عن القروض الاستهلاكية أو الإنفاق العسكري الذي لا يُثمر إلا المزيد من التبعية والدمار.

في النهاية، لن يتحقق النصر إلا بإرادة وطنية صادقة تبدأ من الإنسان، وتمتد إلى كل مؤسسات الدولة، وتشتبك مع التحديات العالمية بحكمة وشجاعة. عندها فقط، سينكسر قيد التبعية، وينهض الوطن، ويعيش الإنسان بكرامة في أرضه، لا هاربًا من وطنه، بل فخوراً به، صانعًا لمستقبله ومستقبل أجياله.

** أ.إدريس أحميد ..صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي.

تم نسخ الرابط