عاجل

بعد حرب الـ12 يومًا: مستقبل المحور الروسي - الإيراني.. إلى أين؟

بوتين
بوتين

كثيرًا ما يثور التساؤل حول مدى نجاعة سياسة المحاور الروسية بمنطقة الشرق الأوسط ومدى صلابة علاقات روسيا بأطراف تلك المحاور. وتعد طهران في مقدمة تلك العواصم الجيوسياسية التي أولت لها روسيا اهتمامًا خاصًا منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين الحكم. وعلى الرغم من توطد العلاقات الروسية-الإيرانية على كافة الأصعدة  خاصة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية والدعم العسكري الايراني لموسكو، جاءت أحداث الحرب الإسرائيلية-الإيرانية (13-24 يونيو 2025) لكي تضع المحور الروسي-الإيراني ومستقبله موضع جدل خاصة بعد الموقف البرجماتي الروسي الذي اتصف بالحيادية والحذر تجاه الأحداث.

ووفقًا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إذ اكتفت روسيا بدعم سياسي خطابي لإيران دون أن تقدم على خطوات عملية أو عسكرية داعمة لها على الرغم من اتخاذ الحرب الإسرائيلية-الإيرانية أبعادًا عسكرية خطيرة خاصةً مع تدخل الولايات المتحدة الأمريكية واستهدافها المنشآت النووية الإيرانية. لقد طرح الموقف الروسي عدة تساؤلات حول مدى فاعلية المحور الروسي-الإيراني وحدوده، كما أن تفاؤل روسيا الحذر والمتشكك من نتائج هذه الحرب التي استمرت إثنى عشر يومًا حين صدر قرار وقف إطلاق  النار قد أعطى انطباعًا لدى عدد من المحللين بأن المستقبل قد يحمل سيناريوهات عدة لمستقبل هذا المحور نتيجة لمتغيرات ومستجدات قد تكون سببًا في تعزيز هذا المحور أو إضعافه.

على ضوء ذلك، يمكن طرح أربعة سيناريوهات تتوافر لكل واحدة فرص للتحقق وتواجهها عدة تحديات على النحو التالي:

السيناريو الأول: التحول من محور مرن إلى حلف عسكري صلب

يعد هذا السيناريو هو الأكثر طموحًا في تطور العلاقات الروسية-الإيرانية، ويزداد فرص تحققه مع:

1- استمرار الهدف الجيوسياسي المشترك للطرفين: وهو مناهضة الهيمنة الأمريكية والمشاركة في بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وتتمثل أهم مؤشرات استمراره في استمرار حكم رجال الدين في إيران؛ وعقيدتهم الجيوسياسية التي تصور الولايات المتحدة الأمريكية بالشيطان الأكبر الذي يجب مناهضته من ناحية، وفي استمرار حكم بوتين وعقيدته المتأثرة بالفكر الجيوسياسي الأوراسي الذي يرى ضرورة بناء حلف استراتيجي قوى تقوده روسيا الأوراسية في مواجهة الهيمنة المنفردة للقوة البحرية الأطلسية الأمريكية من ناحية أخرى. هذه التوجهات الأيديولوجية وإن حاول القادة اتباع نهجًا براجماتيًا وتجنب طرحها صراحة خشية الاصطدام بالقوة الأمريكية، إلا إنها تظل راسخة في أذهان القادة في انتظار الفرصة المناسبة لتحقيقها.

2- التصعيد العسكري الغربي ضد المحور الروسي-الإيراني: وذلك مع ازدياد تأزم العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية سواء بالنسبة لإيران في حالة فشل المفاوضات حول برنامجها النووي وعدم التوصل لحلول ترضي جميع الأطراف، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد عسكري جديد أو عقوبات أشد، أو بالنسبة إلى روسيا في حالة عدم الوصول لتوافقات حول وقف الحرب الروسية-الاوكرانية وازدياد الضغوط والعقوبات الغربية على روسيا. وهناك عدد من الموشرات مازالت مستمرة أو استجدت بعد الحرب الإسرائيلية-الإيرانية على إمكانية حدوث هذا التصعيد منها:

أ- الخسائر التي لحقت بإيران من جراء الحرب الإسرائيلية ضدها وازدياد رغبتها في مظلة دفاعية أو ردع دولي: إذ أن تكرار الهجمات الإسرائيلية وزيادة الخسائر، التي تمثلت أبرزها في قتل عدد من القادة العسكريين وكبار العلماء النوويين، وتضرر منشآتها النووية، وربما تعرضها للتدمير بشكل كامل أو جزئي، حسب الرواية الإسرائيلية، يضاف إلى ذلك، الخسائر الاقتصادية الكبيرة في إيران والدمار في البنية التحتية، قد تدفع إيران إلى البحث عن مظلة دفاعية دولية رادعة بتكوين حلف قاري أو إتمام تحالف عسكري على غرار التحالف بين روسيا وكوريا الشمالية.

ب- استمرار وجود تحديات تقلص من إمكانية الوصول إلى تفاهمات أمريكية-إيرانية حول الملف النووي: على غرار انعدام الثقة بين الطرفين، وصعوبة تخلي إيران عن التقدم الذي حققته في مجال تخصيب اليورانيوم، وتعارض المصالح مع الدول النووية الأخرى والقوى الإقليمية، هذا الى جانب الاختلاف حول الملفات الشائكة الأخرى.[1]

ج- استمرار الخطاب المتشدد والتلويح الأمريكي-الإسرائيلي باستئناف الحرب ضد إيران: فعلى الرغم من إعلان وقف النار في 24 يونيو 2025 بوساطة أمريكية، إلا أن عدة تحليلات أشارت إلى أن إسرائيل تستعد لشن موجة هجومية جديدة إذا "دعت الحاجة" وسط تحذيرات من مراقبين بأن الأخيرة تسعى لاستغلال أي مبررات لتصعيد الصراع[2]. هذا إلى جانب تزايد الأعمال التخريبية والانفجارات داخل إيران التي تُتهم فيها إسرائيل لإضعاف القدرات الدفاعية الإيرانية[3]، بالإضافة إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -على رغم مساهمته الدبلوماسية المؤقتة- قد عبّر أكثر من مرة عن استعداده للسماح بتوجيه ضربات أمريكية أو إسرائيلية جديدة ضد منشآت إيران النووية إذا رآها ضرورية، مؤيدًا الخطاب الإسرائيلي حول الخطر النووي الإيراني. ويرى مراقبون أن ترامب يترك لإسرائيل هامش حرية واسعًا للتحرك، ما قد يشكل خطرًا بتوريط واشنطن في صراع أوسع إذا تصاعد القتال.[4]

د- استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية وتوتر العلاقات الأمريكية-الروسية: حاول ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، إقناع بوتين، تارة عبر الترغيب وتارة عبر الوعيد، بوقف الحرب لكن من دون تحقيق أيّ تقدّم ملموس حتى الآن. فقد تعثّرت الجهود الدبلوماسية بين موسكو وكييف، وفشلت جولتان من المحادثات بين الروس والأوكرانيين في تركيا، يومي 16 مايو و2 يونيو، في تحقيق تقدم كبير، ولم يُعلن عن جولة ثالثة بعد. وقد سبق لترامب أن صرّح أنّه "مستاء للغاية" من المكالمة الهاتفية التي أجراها مع بوتين بسبب عدم جنوحه للسلم وعدم رغبته في التنازل عن أهدافه، وأعلن ترامب أن الولايات المتّحدة سترسل "مزيدًا من الأسلحة الدفاعية" إلى أوكرانيا، وألمح إلى أنّه قد يلجأ إلى تشديد العقوبات على موسكو بعد أن تجنّب هذا الخيار طوال الأشهر الستة الماضية التي قضاها محاولًا إقناع نظيره الروسي بإنهاء الحرب[5]، وهو ما أكده للصحفيين يوم 25 يوليو الفائت قبل مغادرته إلى بريطانيا بقوله أنه لا يستبعد إمكانية فرض عقوبات ثانوية على روسيا،[6] وهو مؤشر على زيادة التوتر بين البلدين واحتمالية التصعيد.

لكن مع وجود مؤشرات على إمكانية تحقق هذا السيناريو، هناك تحديات تعوق تحقيقه منها:

1- مكاسب الطرفين من مرونة المحور: فمرونة المحور تسمح للطرفين بهوامش من الحركة تمنكهما من بناء علاقات متشابكة ومتوازنة مع أطراف أخرى، كما تسمح لهما بالمناورة في علاقاتهما بالغرب على نحو يجنبهما التصادم المباشر معه في حروب قد تهدد وجودهما أو على الأقل قد تطيح بمكانتهما ونفوذههما الدولي. فلا أحد يمكنه إنكار أن روسيا قد حققت مكاسب لها من جراء الحرب الإيرانية-الإسرائيلية خاصة فيما يتعلق بصرف انتباه الغرب عن أوكرانيا مما سهل لروسيا تحقيق أهداف ميدانية لها أو في حماية مكانتها كوسيط محايد يمكن له المشاركة في المستقبل في اتفاقيات خاصة بالبرنامج النووي الإيراني.[7]

2- الطموح الجيوسياسي للطرفين ومصالحهما المتعارضة في عدد كبير من الملفات: من أهم التحديات التي يواجهها المحور الروسي-الإيراني هو الطموح الجيوسياسي للطرفين وتبنيهما لأجندة توسعية تعد منطقة الشرق الأوسط إحدى دوائرها. فروسيا البوتينية تتبع مقاربة جيوسياسية هدفها استعادة مكانتها العالمية كقوة عظمى وموازنة القوى الأطلسية في سبيل إقامة عالم متعدد الأقطاب تكون روسيا أحد أقطابه البارزين. كما أن إيران تسعى هي الأخرى إلى تعزيز أمنها القومي ودورها ونفوذها الإقليمي، وتتقاطع هكذا مجالاتهما الحيوية ودوائر نفوذهما سواء في الشرق الأوسط أو في الجوار القريب الروسي، وهي الدوائر التي تشهد التعاون والتنسيق بينهما من جهة والتنافس من جهة أخرى وهو أمر يظهره عدم تطابق مواقف الطرفين في العديد من القضايا والأزمات الإقليمية مثل خلافاتهما في الساحة السورية وتعارض مصالحهما في أسواق الطاقة وكذلك موقفهما من برنامج إيران النووي.

3- فجوة القوة بين الطرفين: يشير عدد من التحليلات إلى أن فجوة القوة بين روسيا كقوة دولية وإيران كقوة إقليمية قد تجعل الأخيرة أكثر رغبة في تشكيل هذا الحلف نظرًا لانها ستكون المستفيد الأكبر من المظلة الدفاعية التي قد توفرها لها روسيا، وفي المقابل قد تجعل الكرملين غير راغب في رفع مستوى علاقته بإيران إلى مستوى التحالف العسكري وتفضيل إبقاء العلاقة في إطار المصالح المتبادلة حتى لا يتورط في حروب بعيدة عن أولوياته الحالية. 

السيناريو الثاني: تعزيز المحور الروسي-الإيراني "عسكريًا"

يتشكل هذا السيناريو من واقع ما بعد حرب الـ12 يومًا وخروج إيران بخسائر عسكرية واقتصادية تجعلها أضعف مما كانت عليه، إذ تأتي التساؤلات من قلب هذا الواقع كالتالي: كيف ستتجاوز إيران خسائرها وتستعيد بناء قدراتها، وهل سيكون لروسيا دور في دعم إيران؟ وبالتالي سوف تعتمد فرص تحقيق هذا السيناريو بدرجة أكبر على مدى القدرة الروسية على تعزيز القدرات العسكرية الإيرانية بعد حربها ضد إسرائيل ورغبتها في ذلك.

ففيما يتعلق بالقدرة الروسية على تقديم الدعم، فمن الجدير بالذكر أن أهم مؤشر على تحقيق ذلك بعد أحداث حرب الـ12 يومًا يكمن في تاريخ التعاون العسكري بين الطرفين، ونجاحه يعد مؤشرًا هامًا على إمكانية حدوث هذا الدعم في المستقبل، لكن الأمر أيضًا يتعلق بالرغبة الروسية في تقديم الدعم وهذه الرغبة مرهونة بعدة عوامل قد تدفع روسيا لزيادة دعمها العسكري لإيران قريبًا وهي تتلخص في عدة نقاط رئيسية:

1- الحاجة الروسية لتحسين صورتها وتأكيد مصداقيتها كحليف وصديق موثوق فيه: وذلك بعد اهتزاز صورة روسيا على إثر سقوط الأسد وتراجع دورها بالشرق الأوسط، فقد يكون تصاعد التهديدات الأمنية ضد إيران وسعي الأخيرة إلى البحث عن دعم روسي وطلبه صراحة لتعويض خسائرها ولتعزيز دفاعاتها، كذلك فإن الدعم العسكري الروسي لطهران سوف يكون فرصة تصب في مصلحة النفوذ الروسي بالمنطقة وتحسين صورتها من خلال حمايتها لحليف استراتيجي لها.

2- زيادة التوتر الروسي مع الخصم الأمريكي المشترك لهما ورغبتهما في مناهضته: وهو ما يعد عاملًا يجمع روسيا وإيران، ويحفز موسكو على تعزيز دعمها العسكري لطهران كجزء من تحدي النظام الدولي بقيادة واشنطن[8].

3- الحاجة الروسية إلى تعزيز القدرات العسكرية في أوكرانيا عبر التعاون مع إيران: مثل توطين إنتاج الطائرات المسيّرة الإيرانية في روسيا، ما يعزز تبادل الدعم العسكري بين الطرفين ويحفز موسكو على تقديم المزيد من الدعم لإيران للحفاظ على هذه الشراكة[9].

4- مكاسب روسيا جراء مساعدة إيران في الحصول على تقنيات عسكرية متقدمة منها: خاصة في مجال الدفاع الجوي والصواريخ، لتعزيز قدرتها على مواجهة الهجمات الإسرائيلية والأمريكية، وهو ما قد يدفع روسيا لتوسيع الدعم العسكري مقابل مكاسب سياسية أو اقتصادية[10].

5- الضغوط الاقتصادية والعقوبات الغربية على كلا البلدين: والتي تدفعهما لتعزيز التعاون العسكري والاقتصادي من أجل تجاوزها، مما قد يشجع روسيا على زيادة دعمها العسكري لإيران كجزء من استراتيجية أوسع لمواجهة العقوبات الغربية[11]، خاصة أن هذه العقوبات مازالت تتجدد بل وتزداد وآخرها ما تم الاعلان عنه من قبل الاتحاد الأوروبي بفرضه حزمة جديدة من العقوبات وصفها بأنها الأقوى ضد روسيا.[12]

يعد هذا السيناريو من السيناريوهات المرجحة، إذ تشير الأحداث إلى تصاعد ملحوظ في مستوى التنسيق العسكري بين موسكو وطهران، حيث عُقدت خلال الاسبوع الماضي اجتماعات بين وزيري دفاع البلدين ومسئولين رفيعين لمناقشة تعزيز العلاقات الدفاعية والعسكرية وفق معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي دخلت حيز التنفيذ هذا الشهر، في حين اجتمع مستشار المرشد الأعلى علي لاريجاني بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأطلعه على رؤية طهران بشأن تصاعد التوتر في الشرق الأوسط والملف النووي. وفي خطوة إضافية تؤكد عمق هذا التعاون انطلقت في 21 يوليو الفائت مناورات بحرية مشتركة بين روسيا وإيران في بحر قزوين تحت اسم "كاساركس 2025″، بمشاركة قوات بحرية من البلدين وعناصر من الحرس الثوري الإيراني، في تطور عسكري هو الأبرز منذ بداية العام[13].

لكن لم تسجل تقارير في الأسابيع الماضية عن تزويد روسيا إيران بأنظمة دفاع جوي متطورة أو أسلحة نوعية رغم استمرار القنوات الدبلوماسية والتقنية، ويمكن القول إن روسيا تكتفي في هذه المرحلة بتفعيل الشراكة العسكرية عبر المناورات والتنسيق الاستشاري، ولم تندفع لتقديم تعزيزات عسكرية استثنائية لإيران حتى الآن. إذ تبقى تحديات أخرى تعيق تقديم روسيا الدعم العسكري لإيران من أهمها:

1- سياسة الموازنة بين الخصوم التي تتبناها روسيا: فهذه السياسة تجعل روسيا تأخذ في اعتبارها مصالح أطراف إقليمية أخرى قد يكونون خصومًا لإيران مثل دول الخليج وإسرائيل، وتلك السياسة تكون مصحوبة بعدم رغبة روسيا في تهديد مصالح هؤلاء الفاعلين، وبعدم رغبتها في قلب موازين القوى في المنطقة لصالح إيران إذا قامت بتزويدها بقدرات عسكرية متفوقة. ويظهر ذلك في تردد روسيا تاريخيًا في تزويد إيران بأحدث أنظمتها الدفاعية، مثل مماطلتها في توريد منظومة دفاع  S-400 وطائرات Su-35 لإيران.

2- الحرب في أوكرانيا: فمع ارتكاز السياسة الروسية على مبدأ الأولويات الاستراتيجية، أصبح الصراع في أوكرانيا التي ركزت موسكو جهودها ومواردها عليه باعتباره محوراً رئيسياً لتحدياتها الأمنية، أحد المحددات الرئيسية في تعاملها مع حلفائها وخصومها. ويظهر ذلك في تعامل روسيا مع خصوم إيران، إذ يمكنها وفقًا لمبدأ الأولوية أن تفضل مصالحها في تلك الحرب على مصالح إيران، وقد ظهر ذلك في العلاقات الروسية–الإسرائيلية التي تلعب دوراً مركزياً في السياسة الروسية تجاه الصراع الأوكراني، حيث تسعى موسكو للحفاظ على توازن دقيق مع إسرائيل لتفادي انخراطها في دعم عسكري مباشر أو استخباراتي لأوكرانيا، أو دعم غير مباشر خاصة أن إسرائيل تحظى بنفوذ قوي من خلال جماعات الضغط مثل "الأيباك" في الولايات المتحدة، وتعتبر لاعباً مؤثراً في السياسات الغربية الداعمة لأوكرانيا.[14]

3- صعوبة التعويض السريع للخسائر الإيرانية: تشير التقديرات إلى أن تعويض الخسائر الإيرانية يتطلب معدات وتقنيات متقدمة (مثل خلاطات وقود الصواريخ الصلب)، وبعض هذه المعدات يصعب على إيران استيرادها بسرعة حتى من روسيا، خاصة مع حاجة موسكو لمعداتها المتقدمة في حرب أوكرانيا. وفي ظل الضغوط الدولية والعقوبات قد تتباطأ روسيا بدرجة أكبر في الاستجابة لأي طلبات إيرانية لتعويض الخسائر.[15]

السيناريو الثالث: الابقاء على مرونة المحور مع التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني

يعد هذا السيناريو هو الأكثر تفاؤلًا فيما يخص الواقع الجيوسياسي العالمي والشرق أوسطي، إذ يفترض هذا السيناريو بقاء العلاقات الروسية-الإيرانية الوثيقة ومحورها المرن الذي يخدم سياساتهما البرجماتية دون محاولة استفزاز الغرب أو الفاعلين الاقليميين الرئيسيين بالشرق الأوسط بتعاون ودعم عسكري ايراني روسي مكثف أو حلف قاري صلب يهدد الأمن الاقليمي ويقلب ميزان القوة بالمنطقة لصالح إيران. فهو سيناريو يُبقى السياسة الروسية المتوازنة متعددة المحاور ويقرب روسيا من القيام بدور الوسيط المحايد أو على الاقل يعطيها الفرصة لطرح رؤيتها لحل بعض الملفات كالملف النووي الإيراني. كما يفترض هذا السيناريو نجاح الغرب في التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران حول البرنامج النووي الإيراني يراعي مصالح كافة الأطراف. والحقيقة أن فرص تحقيق هذا السيناريو تزداد مع توافر عدة دوافع للأطراف المعنية على النحو التالي:

1- دوافع إيران: وتتمثل في رغبتها في رفع العقوبات الاقتصادية مما ينعكس إيجابًا على اقتصادها ويتيح لها تصدير النفط والغاز بحرية أكبر، وسعيها إلى الحصول على شرعية دولية لبرنامجها النووي السلمي، ودمجها في المجتمع الدولي ورغبتها في الاحتفاظ ببرنامج نووي متقدم لأغراض سلمية، مع إمكانية تطويره مستقبلًا، كما أن التوصل إلى اتفاق يعد فرصة لتحسين الوضع الداخلي من خلال رفع العقوبات مما يساهم في تحسين الأوضاع المعيشية ويعزز من استقرار النظام داخليًا[16].

2- دوافع الدول الغربية: وتتعلق برغبتها في تقليص قدرة إيران على تطوير سلاح نووي، ما يحد من مخاطر سباق تسلح نووي في المنطقة ويسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي، كما أن الاتفاق يسمح للولايات المتحدة بالتركيز على ملفات استراتيجية أخرى مثل التحديات الصينية والروسية للهيمنة الأمريكية. فضلاً عن أنه قد يمنح فرصًا اقتصادية للغرب من خلال فتح السوق الإيرانية أمام الاستثمارات الغربية بعد رفع العقوبات[17]، وتتعزز هذه الدوافع مع وجود شخصية ترامب وعقليته التجارية المرجحة لمبدأ الصفقات.

3- دوافع روسيا: وتنصرف إلى المشاركة في حل الملف النووي إيراني في ضوء رغبتها في الحفاظ على نفوذها الإقليمي من خلال قيامها بدور الوسيط والضامن في المنطقة وتعزيز علاقتها بمحورها الشرق أوسطي من خلال دعمها لمصالحه في المحافل الدولية، كذلك رغبتها في إمكانية الحصول على مكاسب اقتصادية وتقنية من خلال التعاون النووي مع إيران، مثل نقل اليورانيوم المخصب الزائد إلى روسيا وتحويله إلى وقود نووي. كما أن روسيا ترى أن التوصل إلى اتفاق قد يمنع فرص التصعيد العسكري ضد ايران والانزلاق في مواجهات عسكرية قد تضر بمصالحها في المنطقة.[18]

ومع ذلك، فإن هناك تحديات تعيق تحقيق هذا السيناريو مثل انعدام الثقة المتبادل، فهناك شكوك عميقة بين إيران والغرب حول الالتزام ببنود الاتفاق، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة سابقاً. كما أن هناك تشددًا في المواقف من قبل ترامب الذي شدد مراراً على أن لا صفقة بدون وقف كامل للتخصيب ونقل مخزون اليورانيوم المخصب خارج إيران، بينما ترفض طهران ذلك وتطالب بالاعتراف بحقها في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية. كذلك وجود ضغوط إقليمية كمعارضة إسرائيل وبعض دول الخليج لأي اتفاق لا يحد جذريًا من قدرات إيران النووية أو نفوذها الإقليمي. بالاضافة إلى وجود احتمال أن تستخدم روسيا  الملف الإيراني كورقة ضغط في صراعاتها مع الغرب، ما يعقّد التوافق على تفاصيل الاتفاق، وهو الأمر الذي قد يحدث أيضًا في ظل وجود خلافات أخرى قد تضيف مزيدًا من العقبات أمام التوصل لاتفاق شامل كالخلافات حول برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، ودور إيران الإقليمي. كما أن هناك عقوبات أمريكية أحادية يمكن أن تستمر حتى مع الاتفاق الدولي، وهو أمر قد يحد من الاستفادة الاقتصادية لإيران ويدفعها للتراجع عن تقديم تنازلات، وأخيرًا فان التقدم التقني الذي حققته إيران في برنامجها النووي منذ 2018 قد يصعّب العودة للقيود السابقة، وقد يخلق مطالب تفاوضية جديدة مما يزيد من صعوبة التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الاطراف.[19]

ونخلص من ذلك إلى القول بأن إبرام اتفاق نووي مع إيران يراعي مصالح روسيا يتطلب توازنًا دقيقًا بين مصالح الأطراف الثلاثة (إيران، الغرب، روسيا)، وكذلك مراعاه مصالح أطراف إقليمية أخرى مع معالجة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية، في ظل بيئة إقليمية ودولية معقدة ومتغيرة باستمرار، وهذا الأمر يجعل مثل هذا السيناريو من السيناريوهات الغارقة في التفاؤل والمستبعدة في الأمد القريب وإن كانت ليست بالمستحيلة إذا توفرت الارادة وتقدمت المصالح البراجماتية وعقدت الصفقات بين الأطراف.

السيناريو الرابع: انهيار المحور الروسي الإيراني "عودة إيران إلى المظلة الأمريكية"

يفترض هذا السيناريو تحقيق الهدف الجيوسياسي الأمريكي والإسرائيلي المتمثل في كسر شوكة إيران ونفوذها الإقليمي وإعادتها إلى المحور الغربي وذلك تمهيدًا لإعادة تشكيل شرق أوسط جديد تكون الزعامة الإقليمية فيه لاسرائيل دون منافس وفقًا للمشروع الابراهيمي. ويرى بعض المحللين المتأثرين بنظرية المؤامرة أن أحداث الحرب الإسرائيلية الإيرانية ما كانت سوى حلقة في مسلسل تشكل الشرق الأوسط لصالح الغرب وحليفه بالمنطقة وأن الهدف الحقيقي منها ليس جر إيران إلى مائدة المفاوضات بكسر شوكتها ولكن الرغبة في إضعاف النظام نفسه. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مقاربة روسيا القائمة على فكرة نقل تخصيب اليورانيوم الإيراني إلى روسيا وضمان عدم تهديد إسرائيل مما يشير إلى كون الهدف النهائي لتل أبيب تغيير النظام الإيراني وليس الملف النووي فحسب.[20] 

ويشترط لتحقيق هذا السيناريو تغيير النظام الإيراني نفسه، وهذا يمكن أن يحدث في ظل تصعيد عسكري غربي على إيران سواء بشكل مباشر أو بواسطة إسرائيل، وتزداد فرص ذلك في حالة تعثر الاتفاق النووي واستمرار إيران في تخصيب اليورانيوم وقرب الوصول إلى مشارف تصنيع السلاح النووي. وهنا سيكون التدخل الأمريكي الإسرائيلي دراماتيكيًا على غرار ما حدث في عزو العراق. ومن خلال سقوط نظام طهران، وهو النظام الذي يقف حجرة عثرة أمام عودة إيران إلى المظلة الأمريكية كما كانت في عهد الشاه، ستتراجع كافة التحديات التي تحول دون التقارب الأمريكي الإيراني مثل عنصر عدم الثقة وتأثير التيارات الداخلية المتشددة التي تعارض الانفتاح على الغرب، والخلافات حول البرنامج النووي الإيراني، ودور إيران في النزاعات الإقليمية، ومسألة العقوبات الأمريكية.

ومن خلال تحقق هذا السيناريو سيكون الغرب قد حقق انتصارًا جيوسياسيًا على روسيا من خلال كسر محورها مع إيران. وبالتالي سيكون هذا السيناريو أكثر السيناريوهات إضرارًا بالمصالح الروسية الدولية والشرق أوسطية، إذ سيؤدي إلى:

1- فقدان شريك استراتيجي في مواجهة الغرب: الأمر الذي سيضعف موقف روسيا في الشرق الأوسط ويقلل من نفوذها في ملفات إقليمية حساسة.

2- تراجع التعاون العسكري والاقتصادي مع إيران: إذ كانت روسيا تعتمد على إيران في صفقات الأسلحة والتعاون في مواجهة العقوبات الغربية، فخروج إيران من هذا المحور سيقلل من قدرة موسكو على الالتفاف على العقوبات.[21]

3- تضييق خيارات موسكو: خاصة أن فقدان الورقة الإيرانية يحد من قدرة روسيا على المناورة في المفاوضات مع الغرب، لاسيما في أوكرانيا.

4- نشوب منافسة اقتصادية بينهما: فإيران المنفتحة على الغرب ستنافس روسيا في أسواق الطاقة، خاصة في آسيا وأوروبا، ما يضغط على عائدات روسيا النفطية والغازية.

5- تعقيد الموقف الروسي في المنطقة: فقد تجد روسيا نفسها مضطرة لإعادة تقييم تحالفاتها، خاصة في ظل تنامي النفوذ الأمريكي عبر إيران، مما قد يؤدي إلى فقدان روسيا لورقة ضغط مهمة في مواجهة الغرب.

6- فراغ محتمل في بعض المناطق: مع ضعف الدور الإيراني الموالي لروسيا، قد تنشأ فجوات أمنية وسياسية في مناطق النفوذ الإيراني، حيث تحاول إيران إعادة توجيه علاقاتها بعيدًا عن موسكو، مما يترك روسيا أمام تحديات للحفاظ على نفوذها.[22]

على الرغم من إمكانية حدوث هذا السيناريو- ولو بدرجة احتمال منخفضة -إذا اخذنا بعين الاعتبار نظرية المؤامرة، فسيكون التحدي الأكبر لحدوثه هو التحدى الشرقي المتمثل في روسيا والصين اللتين قد تسعيان لإفشال أي تقارب أمريكي-إيراني عبر تحفيز طهران على البقاء في محور "مناهضة الغرب" والحيلولة دون إسقاط نظامها بدعمه عسكريًا أو إدخاله في تحالف صلب، أو على الأقل محاولة استقطاب النظام الجديد  في حالة فشلها في الحفاظ على نظامه السابق.

يتضح مما سبق، أن المستقبل قد يسمح للمحور الروسي الإيراني بعدة مسارات ينطوي كل واحد منها على فرص تجعل تحققه ممكنًا وتحديات تحول دون ذلك، هذه المسارات تشير إلى أن فكرة الإبقاء على مرونة المحور دون الوصول إلى حل للملفات الشائكة بالمنطقة وعلى رأسها الملف النووي الإيراني تواجه إشكاليات عديدة، على الرغم من أن مرونة المحور ناتجة عن رغبة الطرفين في إبقاء هامش حركة يستطيعان بهما تحقيق مصالحهما والحفاظ على تنوع علاقاتهما بأطراف أخرى. وهذا يرجع إلى وجود مؤشرات -ناتجة عن الواقع الجيوسياسي الحالى الذي تتقلب أحداثه ومتغيراته بشكل سريع - يصعب معها ثبات النمط المرن للعلاقة الراهنة بين البلدين، كما يصعب معها التكهن بالسيناريو الأكثر احتمالًا. مع ذلك، يمكن التكهن بأكثر السيناريوهات تفضيلًا لروسيا ولمصالحها بالمنطقة، إذ يبقى السيناريو الثالث الذي يحافظ على المحور الإيراني الروسي وعلى مرونته مع توصل الأطراف المعنية إلى اتفاق نووي يراعي مصالح الجميع هو السيناريو الذي قد يزيد من مكاسب الأطراف جميعها ويصب في صالح استقرار المنطقة ويحول دون جرها إلى هوة الحروب التي قد تعصف بها. بينما يظل السيناريو الرابع الاكثر إضرارًا لمصالح روسيا من خلال فقدان حليف استراتيجي لها واستقطابه تحت المظلة الأمريكية. كذلك يعد السيناريو الأول من السيناريوهات التي لا تصب في صالح روسيا، إذ أن روسيا البراجماتية لن تكون مستعدة على الأقل في المدى القصير لفتح جبهات عسكرية أو تصعيد مع الغرب من خلال استفزازه بتكوين تحالف عسكري صلب مع إيران، لذلك يبقى السيناريو الثاني الذي يفترض تعزيز روسيا للقدرات الإيرانية ومساعدتها في تعويض خسائرها هو الأكثر تماشيًا مع نهجها البراجماتي المتوازن، إذ يحقق هذا السيناريو ردعًا للخصوم في حالة فشل المفاوضات الإيرانية الأمريكية ومحاولة جر الحليف الإيراني إلى الحرب مرة أخرى، وفي الوقت ذاته لن يكلف روسيا مغبة فتح جبهة عسكرية جديدة ضد الغرب.

 

تم نسخ الرابط