عاجل

الشمول المالي ليس مجرد مصطلح اقتصادي متداول،  ولكن ببساطة هو رؤية متكاملة تهدف إلى إتاحة الخدمات المالية الرسمية (مثل الحسابات البنكية، البطاقات، المحافظ الإلكترونية، القروض، والتأمين ) لجميع فئات المجتمع، بسهولة وأمان، وبما يتناسب مع احتياجاتهم. الهدف الأساسي هو دمج أكبر عدد من الأفراد في النظام المالي الرسمي، بما يتيح لهم إدارة أموالهم وتنميتها وحمايتها.

في مصر، أصبح الشمول المالي توجهًا استراتيجيًا، خاصة مع الشباب باعتبارهم المحرك الرئيسي لاقتصاد المستقبل. لكن من المهم أن ندرك أن الشمول المالي ليس مجرد امتلاك حساب أو بطاقة ائتمان، بل هو منظومة متكاملة تحتاج إلى وعي وثقافة مالية، حتى لا يتحول باب الفرص إلى طريق للديون والضغوط.

أرقام تكشف التحول

بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بلغ معدل الشمول المالي 74.8% من البالغين بنهاية عام 2024 أي أن أكثر من 52 مليون مواطن يمتلكون حسابات أو محافظ إلكترونية أو بطاقات دفع. النسبة بين الشباب (15–35 عامًا) وصلت إلى 53.1% بعد أن كانت 36% فقط في 2020. حتى النساء حققن قفزة ملحوظة، من 25% في 2016 إلى 68.8% حاليًا.

هذا النمو جاء بفضل انتشار الخدمات الرقمية، وإمكانية فتح الحسابات عبر الهاتف المحمول، وهي عوامل جعلت الوصول إلى الخدمات المالية أسهل من أي وقت مضى، خاصة لجيل يعتمد على التكنولوجيا في حياته اليومية.

من فرصة إلى خطر

هذه التسهيلات منحت الشباب فرصًا مهمة: إدارة الدخل مبكرًا، تكوين مدخرات، والاستثمار في مشروعات صغيرة. لكن في المقابل، ظهرت مخاطر جديدة.
سهولة الحصول على بطاقة ائتمان أو قرض استهلاكي دفعت كثيرين لتمويل ليس فقط احتياجات أساسية، بل كماليات ومظاهر اجتماعية.

حدثني شاب بصراحة لافتة: “أعمل كل يوم، ليس لتحقيق أحلامي، بل لسداد ديون صنعتها بطاقة ائتمان.”
كانت جملته تذكيرًا واضحًا بأن الأداة المالية، مهما كانت مفيدة، قد تتحول إلى قيد إذا غاب الوعي

طبقة اجتماعية جديدة

هذه الظاهرة أفرزت شريحة جديدة من المجتمع… فئة ليست فقيرة ولا غنية، لكنها تحاول الحفاظ على مظهر الطبقة المتوسطة العليا، بينما تعاني ضغوطًا مالية متزايدة.

دور وسائل التواصل الاجتماعي

وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تعزيز هذا الضغط ، حيث صور السفر، والسيارات الفاخرة، والحياة المترفة والمقارنة المستمرة مع الآخرين تجعل الكثير من الشباب يلجأون للاقتراض أو الشراء بالتقسيط لمجاراة هذه الصورة المثالية.

الوعي المالي… المهارة التي تصنع الفرق

اليوم، لم يعد الوعي المالي رفاهية، بل هو ضرورة حياتية تتطلب:
• التخطيط المبكر: تحديد أهداف مالية قصيرة وطويلة المدى.
• الاستهلاك المسؤول: إدارة النفقات بذكاء وتجنب الديون غير الضرورية.
• تنويع مصادر الدخل: اكتساب مهارات جديدة أو إطلاق مشاريع جانبية.
• عادات مالية سليمة: الادخار المنتظم، الاستثمار المدروس، وسداد المستحقات في مواعيدها.

تجارب دول اخرى  

دول كثيرة أثبتت أن الشمول المالي الناجح يبدأ من التعليم:
• سنغافورة: تدمج الثقافة المالية في المناهج منذ الابتدائية، مع مشاريع عملية تحاكي إدارة ميزانية حقيقية.
• أستراليا: لديها برنامج وطني للتثقيف المالي بالشراكة بين الحكومة والبنوك لتأهيل الشباب قبل دخولهم سوق العمل.
• كينيا: تجربة M-Pesa لم تكتفِ بتوسيع الشمول المالي، بل ربطته بتدريب مجتمعي على إدارة المدخرات.
• الإمارات: أطلقت مبادرات جامعية لتعريف الطلبة بأساسيات الاستثمار والادخار عبر مسابقات عملية لإدارة رأس مال صغير.

خطوات لتعزيز الوعي المالي لدى الشباب المصري
• دمج الثقافة المالية في المراحل التعليمية المبكرة، لسد الفجوة بين التعليم الأكاديمي ومتطلبات الحياة اليومية.
• تعليم ثقافة الادخار والاستثمار والتخطيط المالي منذ سن صغيرة.
• تعريف الشباب بالمفاهيم الأساسية للأدوات المالية، وكيفية اختيار الأنسب لاحتياجاتهم.
• رفع الوعي بالمخاطر المرتبطة بالاقتراض أو الاستهلاك غير المسؤول.
• فهم تأثير العوامل النفسية والاجتماعية على السلوك المالي، والعمل على تصحيح العادات السلبية

خاتمة
يمثل الشمول المالي فرصة استراتيجية لتعزيز قدرة الشباب المصري على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، لكنه لا يكتمل إلا بوعي مالي راسخ يوجّه القرارات نحو الاستثمار والإنتاج بدلًا من الاستهلاك المفرط. إن الدمج بين السياسات التي توسّع الوصول إلى الخدمات المالية، والبرامج التعليمية التي تبني الثقافة المالية منذ المراحل المبكرة، هو الطريق الأمثل لصناعة جيل قادر على إدارة موارده بكفاءة وتحويل الإمكانات إلى إنجازات. في عالم تتسارع فيه التغيرات الاقتصادية، يصبح الوعي المالي ليس خيارًا، بل ضرورة لبناء مستقبل مستقر وآمن.

تم نسخ الرابط