عاجل

"إعادة إنتاج الجيتو".. ما وراء المدينة الإنسانية في غزة؟

غزة
غزة

بينما يتجه المجتمع الدولي للنظر إلى اليوم التالي في غزة وذلك عند التوصل لاتفاق على وقف إطلاق النار، طرحت إسرائيل خطة جديد لإعادة مخطط التهجير القسري لسكان القطاع ولكن بشكل جديد تحت غطاء “المدينة الإنسانية” في جنوب قطاع غزة وعلى مقربة من الحدود المصرية، وذلك لإعادة إحياء خطة التهجير القسري بعد إجهاض الدولة المصرية لها من تاريخ إعلانه من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ظهرت خطة “المدينة الإنسانية” بناء على الخطة التي أعلنها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، وتقوم على إنشاء منطقة محصورة جنوب القطاع وتحديدًا في منطقة المواصي غرب مدينة رفح الفلسطينية، بزعم أنها مكان آمن لإيواء المدنيين، وهي منطقة مغلقة بمدينة رفح الفلسطينية بين محوري موراغ وفيلادلفيا جنوبي القطاع، وتستهدف بداية نقل نحو 600 ألف فلسطيني إليها في مرحلة أولى، مع إقامة 4 مراكز لتوزيع المساعدات وتديرها منظمات دولية، وسيخضع السكان لعمليات تدقيق أمنية بهدف التأكد من عدم انتمائهم لحركة حماس، وبمجرد دخولهم المنطقة لن يُسمح لهم بالمغادرة.

ووفقًا للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، فكرة تهجير السكان وعزلهم ونقلهم قسرًا لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق التاريخي والقانوني والسياسي لذلك. مشروع المدينة الإنسانية المزمع إقامته جنوب رفح الفلسطينية داخل قطاع غزة يعتبر أحد النماذج المستحدثة لسياسات الجيتو، إلا أنها ألصقت بها كلمة “الإنسانية” للهروب من المساءلة أمام المجتمع الدولي، غير أنها تتميز عن الجيتو في أنها تؤسس لواقع ديموغرافي جديد بالقوة وما تنتهكه من حق السكان الأصليين للسيادة على أرضهم وحقهم في العيش بسلام، فكلاهما يهدف للاضطهاد والتهجير والنقل القسري للسكان، وكلاهما ينتهكان القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.

فدولة الاحتلال الإسرائيلي تعيد إحياء جريمة ومعاناة اتخذتها لأكثر من قرن كضحية لهما ولكن هذه المرة على شعب فلسطين، فبدلًا من أن يكون الجيتو درسًا ورمزًا لعدم التكرار أصبح أداة جاهزة بيد من يدعي أنه ضحية له، وإعماله على سكان قطاع غزة، فيعيد ضحية الجيتو نفس أدواته ضد شعب آخر، والفارق أن ذلك الشعب هو صاحب الأرض.

ترجع أصول كلمة جيتو إلى مدينة البندقية في إيطاليا، حيث أصدرت السلطات مرسومًا عام 1516 يقضي بعزل السكان اليهود في حي محدد داخل المدينة، وأُجبروا على العيش فيه، والدخول إليه والخروج منه وفق شروط صارمة، وقد سُمّي هذا الحي بـجيتو نوفو (Ghetto Nuovo). ومن هنا بدأ مصطلح الجيتو كتسميه جغرافية لاسم مكان إلى أن أصبحت رمزًا للعزل والتمييز العنصري.

وأصبح أول تجربة معتمدة رسميًا لممارسة الفصل العرقي المكاني، وهي التجربة التي أرست السرد التاريخي الذي يوظف الجيتو منذ القرن السادس عشر حتى اليوم للإشارة إلى السياسات الجماعية التي تنعزل فيها جماعة بلا إرادة سياسية ضمن حدود محكمة.

ويُستخدم مصطلح “جيتو” في الأدبيات الحقوقية والقانونية للدلالة على أي مساحة مغلقة يُفرض فيها على جماعة سكانية العيش قسرًا، تحت ظروف تمييزية أو أمنية أو سياسية، وهو ما يُستحضر بقوة عند الحديث عن مشاريع مثل المدينة الإنسانية في غزة.

إلا أن التقارب لمصطلح الجيتو مع المدينة الإنسانية يأتي من التشابه مع أشهر دلالة للرمز وهو جيتو وارسو[1]، حيث أنشأه النازيون عام 1940 في مدينة وارسو[2] خلال الحرب العالمية الثانية وذلك لضم اليهود من وارسو والمناطق الأخرى، وكان يمنع الخروج منها وانتهى بما يعرف بانتفاضة وارسو 1943 [3]، حيث انتفض سكان وارسو وبعضهم مسلح ضد القوات النازية إلا أنه انتهى بالحرق والتدمير والقتل[4] وأصبح جيتو وارسو رمزًا عالميًا للاضطهاد العنصري والقتل الجماعي[5] متخذًا السيطرة والاضطهاد رمزًا له، وهو ما تنتهجه دولة الاحتلال الإسرائيلي بنفس الأدوات وبنفس السياق فيما يعرف بالمدينة الإنسانية.

وما ذكرناه يجعل المقارنة بين ما تنوي فعله دولة الاحتلال الإسرائيلي من إنشاء المدينة الإنسانية وجيتو وارسو هو مقارنه متطابقة باختلاف عنصر واحد، هو أن سكان غزة هم أصحاب الأرض، والمعتدي هي إسرائيل.

فمن أكثر المفارقات المأساوية في التاريخ المعاصر أن تتحوّل جماعة تؤكد في كل المحافل الدولية على مر التاريخ أنها عانت من أبشع أشكال العزل والتهميش إلى فاعل يعيد إنتاج نفس النمط من الجرائم على حساب شعب آخر، فقد شكّل جيتو وارسو رمزًا عالميًا للاضطهاد والعزل العنصري، واليوم تمارس إسرائيل (الدولة التي تأسست على أنقاض تلك الكارثة) سياسات متطابقة في قطاع غزة من خلال مقترحات المدينة الإنسانية، والتي تُخفي خلف اسمها المضلل مشروعًا لعزل الفلسطينيين ديموغرافيًا، وتجريدهم من حقوقهم الأساسية بذريعة الحماية الإنسانية، فالمدينة الإنسانية المقترحة في جنوب غزة تؤكد على إعادة إحياء ذات المنطق الإقصائي لكن بلغة جديدة، ففي كلا النموذجين يُجمع السكان داخل منطقة محدودة ومحاصرة تحت دعوى الحماية أو التنظيم بينما تُدار هذه المنطقة أمنيًا من قبل الجهة المسيطرة، ويُحرم السكان فعليًا من حرية التنقل، والوصول للخدمات المستقلة والارتباط الجغرافي ببقية وطنهم. ففي وارسو، أُغلقت الجيتوات بأسوار، وعُزل سكانها عن بقية المجتمع تمهيدًا لنقلهم إلى معسكرات الإبادة، أما في غزة فالمدينة الإنسانية -بحسب الطرح الإسرائيلي– ستُقام في منطقة منفصلة جغرافيًا عن بقية القطاع، معززة بحواجز أمنية، وتُدار عبر تنسيق أمني خارجي، ما يُثير شبهة استخدامها كأداة لتكريس التهجير الداخلي القسري الدائم وفصل ديمغرافي مقصود أو الضغط للخروج خارج حدود الدولة في اتجاه الدولة المصرية.

وكل ذلك يعطي نتائج ودلالات على إعادة تدوير لأفكار قديمة أخذ المجتمع الدولي مواقف ناكرة لها، وكذلك أيدت محكمة العدل الدولية عدم شرعيتها ومخالفتها للقوانين الدولية ومن تلك الأفكار:

الجدار العازل[6] 2002 والتي تأتي المدينة الإنسانية كإعادة تدوير لنفس الأفكار في الفصل المنهجي والتمييز العنصري واقتطاع جزء من الأراضي الفلسطينية سواء بالفصل بينها وبين جزء آخر مثل الجدار العازل أو باقتطاعها وإخراجها خارج السيادة الفلسطينية كما هو مزمع مع المدينة الإنسانية.

وكان لمحكمة العدل الدولية حكم فيه:

حيث وجدت المحكمة أن بناء الجدار والنظام المرتبط به يميل إلى تغيير التركيبة السكانية للأرض الفلسطينية المحتلة، مما يخالف اتفاقية جنيف الرابعة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وبالتالي فإن بناء الجدار يُشكل خرقًا من جانب إسرائيل لبعض التزاماتها بموجب القانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان، وأنه لا يمكن لإسرائيل الاستناد إلى حق الدفاع عن النفس أو إلى حالة الضرورة لنفي عدم مشروعية بناء الجدار، وهو ما يتسق مع ما تنوي إسرائيل فعله بالمدينة الإنسانية.

ما وراء المدينة الإنسانية

فكرة المدينة الإنسانية تخلق إطارًا جيوسياسيًا جديدًا ومحاولة فرضه على أرض الواقع بفصل الشعب الفلسطيني وسكان غزة ومحاصرتهم داخل تلك المدينة مع عدم السماح لهم بالخروج أو العودة، وهو ما ينزع الصفة السياسية عن سكان غزة، وكذلك يخترق أهم مقومات الدولة الفلسطينية فمقومات أي دولة (شعب – إقليم – سلطة سياسية)، وهذه المدينة غرضها حصار الشعب وانتزاع الإقليم وتغييب السلطة السياسية الحاكمة للمدينة.

فكرة المدينة قائمة على حكم منظمات دولية ودولة الاحتلال الإسرائيلي وبتهجير سكان القطاع سوف يفرغ من السكان، وكذلك عدم وجود سلطة سياسية بالقطاع يفقده وصف إقليم تابع للدولة، فكيف يمكن بقاء دولة دون وجود شعب على إقليمها، فالتهجير يهدف إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره التاريخية وتحويل الأرض إلى مشروع استيطاني إسرائيلي ويؤدي إلى إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية مما يجعل أي مسار نحو حل الدولتين مستحيلًا، فكيف يمكن الحديث عن دولة فلسطينية دون وجود شعب على إقليمها؟

وما تنوي دولة الاحتلال الإسرائيلي فعله يشكل عدة جرائم دولية منها جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية وجريمة تطهير عرقي، ومخالفة كافة القرارات والمواثيق الدولية حيث يحظر القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني النقل القسري للسكان ويعتبره جريمة دولية ويحملها المسئولية الدولية. وأوضح زيجمونت باومان من خلال كتابه “الحداثة والهولوكوست” الدوافع التي تقف وراء ممارسات القتل والعزل والحصار للفلسطينيين وأن هذه الممارسات تنبع من عنصرين جوهريين في العقلية الإسرائيلية تشكّلا بفعل إرث الهولوكوست وهما، أولًا: التوليد الذاتي لفكرة الضحية من خلال تقسيم العالم إلى جلادين وضحايا، حيث تُسقِط إسرائيل دومًا دور الجلاد على الآخر لتحتفظ لنفسها بدور الضحية.

ثانيًا: عقلية الجيتو التي تستبطن فكرة الحصار كمنطق وجوديّ، وهو ما يفسر الإصرار على محاصرة الفلسطينيين ضمن ما يُعرف بـالمدينة الإنسانية، بينما يجري في الوقت ذاته استهداف طالبي المساعدات وقتلهم.

 فيعيد الإسرائيليون إنتاج دروس الهولوكوست بشكل معكوس على الآخر، وفق منطق كن جلادًا حتى لا تكون ضحية.

وختامًا، يمكننا القول لو كان ما تنوي فعله إسرائيل بقطاع غزة من إنشائها مدينة إنسانية هو عمل إنساني، فبالتالي بنفس المعطيات فإن جيتو وارسو كانت مدينة إنسانية وهو

 ما لا يمكن لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن تؤكده أو تثبت عكس سرديتها، فإسرائيل تؤكد دومًا في كل المحافل الدولية تمسكها بسردية أنها ضحية النازية والإبادة، وتحاول أن تثبت حقها القانوني والإنساني، وبالمثل هناك حق قانوني وإنساني لشعب غزة المحاصر، وخاصة في حالة المضي قدمًا في إنشاء المدينة.

تم نسخ الرابط