تأثير الاعتراف الروسي بحكومة “طالبان الأفغانية” على “الباكستانية”

في مطلع يوليو 2025، اتخذت روسيا الاتحادية خطوة غير مسبوقة، حينما اعترفت بشكل رسمي بحكومة طالبان في أفغانستان كـ “سلطة شرعية” في البلاد، لتصبح أول قوة دولية تُعلن ذلك منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم عام 2021. هذا الاعتراف لم يكن فقط خطوة دبلوماسية، بل يعكس تحولاً استراتيجياً في نظرة روسيا للنظام الدولي، وكذلك يُعيد ترتيب المشهد الأمني والسياسي في جنوب آسيا وآسيا الوسطى. وقد جاءت هذه الخطوة الروسية بعد سنوات من خطوات تمهيدية سياسية ودبلوماسية وقانونية تم اتخاذها في هذا الاتجاه، وكان الاعتراف الفعلي قد أتى في وقت سابق بعد شطب موسكو الحركة من قوائم الإرهاب، مما يعني أن الخطوة التي اتُخذت في يوليو، هي إجراء رسمي لترسيخ العلاقات القائمة فعلياً.
ووفقًا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، من المرجح أن هذه الخطوة الروسية مع حكومة طالبان الأفغانية، سيكون لها انعكاسات عدة وعميقة على حركة طالبان الباكستانية، والتي ترتبط ارتباطاً أيديولوجياً وقبلياً بحركة طالبان الأم في أفغانستان، ولكنها تختلف عنها من حيث التموضع الجغرافي وكذلك بعض الأهداف السياسية. ولقد تصاعدت وتيرة نشاط طالبان باكستان منذ سيطرة طالبان أفغانستان على الحكم، ولذلك بات ضرورياً النظر إلى الحركتين كجزء من منظومة متداخلة عقائدياً، جغرافياً، وسياسياً. ورغم أن كلاً منهما يعمل في إطار محلي مختلف، إلا أن التفاعلات بينهما تلعب دوراً حساساً في تشكيل مستقبل الأمن الإقليمي في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، خاصة بعد هذا الاعتراف الروسي بطالبان أفغانستان، وبدء علاقات دولية جديدة للإمارة الإسلامية الأفغانية.
ولفهم سياق اعتراف موسكو بحكومة طالبان الأفغانية وعلاقته بحركة طالبان الباكستانية، سنشير بإيجاز إلى الدوافع الروسية خلف هذا الاعتراف، ثم التطرق إلى الفرق بين الحركتين، ختاماً بانعكاسات هذا القرار إيجاباً وسلباً على حركة طالبان الباكستانية.
لماذا اعترفت روسيا بطالبان أفغانستان؟:
يبدو أن دوافع موسكو عبر هذا الاعتراف الرسمي بطالبان الأفغانية، عديدة وعميقة، وعلى كافة الأصعدة أمنياً وسياسياً واقتصادياً. فمن ناحية نجد أنها تسعى إلى تحقيق الاستقرار في جوارها الجنوبي سيما أن أفغانستان تحد آسيا الوسطى، وتعد مجالاً جيواستراتيجياً هائلاً لامتداد النفوذ الروسي، ومن الناحية الأخرى فهي تحاول كسر الاحتكار الغربي لشرعية الأنظمة في الإقليم من عدمها، خاصة في ظل العزلة الروسية بعد حرب أوكرانيا، فضلاً عن استخدام طالبان الأفغانية كورقة ضغط في التوازن مع الصين وباكستان والغرب، بالإضافة إلى الوصول إلى الموارد الطبيعية في أفغانستان مثل (النحاس، الليثيوم، وغيرها من المعادن النادرة).
وقبل التطرق إلى انعكاس الاعتراف بطالبان أفغانستان على طالبان الباكستانية، من الضروري توضيح الفرق بينهما، وذلك على النحو التالي:
(*) طالبان الأفغانية، يمكن توضيح المنطلقات الفكرية والجغرافية لطالبان الأفغانية من خلال ما يلي:
١. النشأة والتأسيس: تأسست في عام 1994 جنوبي أفغانستان، وتحديداً في قندهار، على يد المُلا محمد عمر، وعُرفت ب (الإمارة الإسلامية في أفغانستان)، ونشأت في سياق الاقتتال الداخلي بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي وسقوط الحكومة الشيوعية حينئذ في كابول. ومعظم أعضائها الأوائل كانوا من طلاب المدارس الدينية (المدارس الديوبندية)، لذا سُمّوا “طالبان” (جمع طالب).
٢. الأيديولوجيا: تعتمد على المدرسة (الديوبندية) وهي مدرسة سُنية محافظة مستمدة من الفقه الحنفي، وتهدف إلى تطبيق صارم للشريعة الإسلامية وفق تفسيرها الخاص، ورفض الديمقراطية والأنظمة الغربية، كما ترى نفسها دولة إسلامية تقوم على “البيعة”، وليس على “الانتخابات” أو “الدساتير المدنية”.
٣. الوصول للسلطة: سيطرت حركة طالبان على كابول أول مرة في عام 1996 وأعلنت قيام “الإمارة الإسلامية”، وحكمت حتى عام 2001، ثم أُطيح بها نتيجة الغزو الأمريكي للبلاد بعد أحداث 11 سبتمبر. لكنها أعادت تنظيم صفوفها مرة أخرى خلال الاحتلال الأمريكي، وشنّت تمرداً مسلحاً واسعاً استمر 20 عاماً، وفي أغسطس 2021، عادت للسيطرة على السلطة بعد الانسحاب الأمريكي وسقوط الحكومة الأفغانية.
٤. العلاقات الدولية: ظلت طالبان الأفغانية معزولة دولياً في الفترة 1996–2001، ولم تعترف بها إلا ثلاث دول فقط (باكستان، السعودية، الإمارات)، وبعد عودتها في 2021، سعت للاعتراف الدولي، لكن لم تعترف بها أية دولة رسمياً حتى يوليو 2025، حينما اعترفت بها روسيا الاتحادية. كما تربطها علاقات غير رسمية مع كل من (الصين، قطر، إيران، وتركيا).
٥ السياسات الداخلية: عُرف عن طالبان أنها تفرض قيوداً شديدة على النساء والفتيات، مثل (حظر التعليم، القيود على العمل، الفصل الصارم بين الجنسين) كما تمنع الأحزاب السياسية، ولا تقبل بالانتخابات ولا الدساتير المدنية، وتحكم البلاد عبر مجلس شورى ومكتب سياسي يُدار من كابول وقندهار.
٦. الوضع الاقتصادي: تواجه طالبان الأفغانية أزمة اقتصادية حادة بسبب العقوبات الدولية وتجميد الأموال في الخارج، وتعتمد على التجارة مع دول الجوار، الضرائب، والرسوم المحلية. وتسعى للانفتاح على الصين وروسيا للحصول على استثمارات تحديداً في مجالي التعدين والطاقة.
٧. الوضع الأمني: تواجه طالبان تحديات أمنية عدة خاصة ما يتعلق بتنظيم “داعش ولاية خراسان” الذي ينفذ هجمات ضدها من حين لآخر ويطعن في شرعيتها، كما أنها تكافح أيضاً من أجل فرض سيطرة مركزية على جميع المناطق والقبائل في البلاد.
(*) طالبان الباكستانية: يمكن توضيح المنطلقات الفكرية والجغرافية لطالبان الباكستانية من خلال ما يلي:
١. النشأة والتأسيس: تأسست رسمياً في ديسمبر 2007، بقيادة بيت الله محسود، كمظلة تضم فصائل جهادية مختلفة، وظهرت كرد فعل على دعم باكستان للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، خاصة بعد اقتحام الجيش الباكستاني للمسجد الأحمر في إسلام آباد عام 2007. وتنشط بشكل أساسي في مناطق القبائل الحدودية مثل وزيرستان، باجور، سوات.
٢. الأيديولوجيا: تتبنى طالبان الباكستانية فكراً سلفياً–جهادياً، متأثرة بالمدرسة الديوبندية، وتهدف إلى إسقاط الدولة الباكستانية وإقامة “إمارة إسلامية” بدلاً منها، كما أنها تعتبر النظام الباكستاني نظاماً “مرتداً” بسبب تحالفه مع الغرب.
٣. العلاقات الدولية: تُصنف طالبان الباكستانية كـ جماعة إرهابية من قبل باكستان، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ولا تحظى بأي دعم رسمي دولي، وتعتمد على التمويل المحلي، الابتزاز، الضرائب القبلية، وتهريب السلاح.
٤. العلاقة مع طالبان أفغانستان: العلاقة بينهما “أيديولوجية وقبلية”، لاسيما أن الطرفين ينتميان إلى قبائل بشتونية، ولكن هناك خلافات سياسية؛ وعلى الرغم من ذلك إلا أن طالبان الأفغانية أحياناً توفر ملاذات آمنة لعناصر من طالبان الباكستانية لاسيما في المناطق الحدودية. وربما مستقبلاً نجد طالبان أفغانستان لا ترغب في خسارة علاقاتها الدولية بدعمها لطالبان باكستان، وبالتالي قد يتقلص أو يتلاشى هذا الدعم.
٥. الوضع الحالي: عادت طالبان الباكستانية للنشاط العملياتي بقوة داخل باكستان بعد سيطرة حركة طالبان الأفغانية على السلطة في أفغانستان 2021، ونفذت أكثر من 400 هجوم خلال عام 2023 فقط. وتحاول الحكومة الباكستانية احتواءها عبر المفاوضات تارة والضربات العسكرية تارة أخرى.
(*) التداخلات بين الحركتين: ويمكن التطرق إلى التداخل بين الحركتين من توضيح ما يلي:
(*) أيديولوجيا مشتركة: كلا الحركتين تنطلقان من مرجعية دينية محافظة، ألا وهي المدرسة (الديوبندية)، وترفضان النماذج الديمقراطية بشكل قطعي، وتعتبران “الشريعة الإسلامية” المصدر الوحيد للحكم.
(*) الهوية القبلية البشتونية: معظم عناصر الحركتين ينتمون إلى قبائل البشتون، ما يخلق تقاطعاً اجتماعياً وجغرافياً، وكذلك وجود روابط أسرية ومناطقية عبر الحدود يمنح طالبان الباكستانية أحياناً ملاذاً في أفغانستان.
(*) التأثير المتبادل: لا شك أن صعود طالبان أفغانستان يعطي دفعة معنوية لحركة طالبان باكستان، لكن أيضاً طالبان الأفغانية في حاجة إلى التمايز عنها سياسياً لكسب الاعتراف الدولي.
(*) التقييم الأمني للحركتين، ويمكن توضيح توضيحه كالتالي:
١- طالبان الأفغانية كمصدر استقرار/ فوضى: لا شك أنه في حال نجاح طالبان في تشكيل نظام حاكم مستقر في أفغانستان ومُعترف به أيضاً، فقد تُسهم في إحداث استقرار إقليمي نسبي. أما في حال فشلها أو استمرارها في توفير الدعم والملاذات الآمنة للجماعات الإرهابية كما الوضع سابقاً، فإن الحدود مع باكستان وآسيا الوسطى إجمالاً ستكون بؤرة تهديد مباشر على مستوى الإقليم.
٢- طالبان الباكستانية كمصدر تهديد: تمثل هذه الحركة خطراً وجودياً على النظام الباكستاني في المقام الأول، وتنشط في مناطق حدودية يصعب على الدولة السيطرة عليها، فضلاً عن أن تحالفها الأيديولوجي مع طالبان أفغانستان يجعل أي تحرك ضدها معقداً من الناحية السياسية.
انعكاسات الاعتراف على الباكستانية:
تنقسم انعكاسات هذا القرار الروسي على حركة طالبان باكستان إلى شقين كما يلي:
(&) الشق الإيجابي: دعم معنوي وأيديولوجي: حيث أن اعتراف قوة عالمية عظمى كروسيا رسمياً بطالبان أفغانستان، يمنح شرعية أيديولوجية لمشروع “الجهاد” كوسيلة للوصول للسلطة بشكل عام، ما قد يحفز طالبان باكستان لتحذو حذو طالبان أفغانستان وأن هذا الاعتراف سيُوظف في إعلام طالبان باكستان كدليل على أن “المقاومة تُؤتي ثمارها” وأنه لا بديل عن فكرة “الإمارة الإسلامية” وفقاً للبُعد العقائدي لديهم، يمكن توضيح الشق الايجابى المنعكس على الحركة. كالتالي:
(١)- توسيع هامش المناورة: حيث أن وجود طالبان الأفغانية على رأس سلطة شرعية مُعترف رسمياً بها، يمنح حلفاءها في الإقليم، وعلى رأسهم طالبان باكستان مساحة آمنة نسبية داخل أفغانستان، ما قد يؤدي إلى إمكانية استخدام الحدود المفتوحة كمنصة للنشاط العملياتي والتجنيد على مستوى أوسع.
(٢)- إرباك النظام الباكستاني: حيث أن النظام في باكستان يخشى من استخدام اعتراف روسيا لطالبان أفغانستان في الضغط عليه، لا سيما إذا استمرت طالبان الأفغانية في تقديم تسهيلات لبعض عناصر طالبان الباكستانية داخل أراضيها، كتوفير الملاذات الآمنة وأماكن التدريب.
(٣)- توسيع دائرة النشاط: ففي حال تقليص أو تراجع دعم طالبان الأفغانية إلى طالبان الباكستانية نتيجة الضغوط التي قد تُفرض على الأخيرة، فمن المحتمل حينها أن تتوسع طالبان باكستان في الداخل الباكستاني بتنوع عملياتي آخر، أو قد ترتبط بجماعات أكثر تطرفاً مثل “داعش خراسان”. وفي سياق مغاير سيؤدي هذا إلى حدوث فوضى إقليمية.
(&) الشق السلبي، يمكن تناول الشق السلبي من الاعتراف، كالتالي:
(١)- تحوّل طالبان الأفغانية إلى سلطة مسؤولة: نظراً لأن اعتراف موسكو يعني أن طالبان مطالبة بـ ضبط سلوكها وتنظيم علاقاتها الخارجية، خاصة مع حلفائها، ومن المُرجح أن أحد مطالب روسيا سيكون الحد من نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود، وعلى رأسها طالبان باكستان، كما قد تتخلى عنها تدريجياً إذا تعارض دعم طالبان باكستان مع مصالح طالبان أفغانستان السياسية والأمنية والاقتصادية.
(٢)- تراجع الدعم اللوجستي: قد تمنع طالبان الأفغانية عناصر من طالبان الباكستانية من استخدام معسكرات داخل أفغانستان، نتيجة الضغط الروسي المتوقع، وقد يؤدي تقليص حرية التنقل خاصة على الحدود إلى التأثير على قدرة الحركة على تنفيذ هجماتها داخل باكستان.
(٣)- تهديد الاستقرار الإقليمي: من المحتمل أنه إذا شعرت روسيا أن طالبان باكستان تُهدد استقرار آسيا الوسطى أو مشاريعها الاقتصادية (كمشاريع الطاقة والتعدين)، خاصة وأن أي استثمار روسي في أفغانستان يحتاج إلى بيئة مستقرة وبالتالي أية زعزعة نتيجة وجود حركة طالبان باكستان في مناطق الحدود تُعد أمراً مرفوضا. وهذا بدوره يحوَل حركة طالبان باكستان من جماعة مقاومة إلى عبء إقليمي في نظر الحلفاء المحتملين لطالبان الأفغانية. وقد تُطالب طالبان أفغانستان بتسليم قادة منهم أو طردهم خارج البلاد.
(٤)- العزل الإقليمي: إن التقارب الروسي بطالبان أفغانستان قد يدفع قوى إقليمية أخرى مثل إيران والهند إلى مراجعة سياساتها تجاه طالبان أيضاً، ما قد يؤدي إلى عزل حركة طالبان باكستان إقليمياً ويفقدها قاعدتها اللوجيستية حيث كان التقارب مع طالبان الأم في أفغانستان، والتي إذا اختارت الانحياز بشكل تام إلى منطق الدولة على منطق الجماعة المسلحة فإن التحدي أمام حركة طالبان باكستان لن يصبح فقط متمثلاً في الحفاظ على قاعدتها، بل في إعادة تعريف نفسها داخل معادلات إقليمية باتت تتغير بجرأة وتكتيك روسي متوازن ومحسوب.
وختاماً، إذا التزمت طالبان الأفغانية بمتطلبات الاعتراف الدولي، والتحول من جماعة إلى دولة مسؤولة، وقدرتها على فصل نفسها عن الحركات التي تهدد استقرار دول الجوار، وكذلك وتوسيع أفاق العلاقات مع روسيا الاتحادية، ما قد يؤدي إلى وجود معادلة أمنية جديدة في الإقليم، من المُحتمل أن تشمل ضغط روسي على طالبان أفغانستان ليس فقط لتقليص أو منع الدعم، بل ربما لضبط الجماعات العابرة للحدود مثل طالبان الباكستانية. وفي المقابل، قد تنظر حركة طالبان باكستان إلى هذا الإجراء كخيانة ممن يشتركون معها في الجذور والهوية، وهذا قد يدفعها للزيادة من تنسيقها مع جماعات أكثر تطرفاً (مثل داعش خراسان).