ديربي الباسك.. صراع التاريخ والهوية بين ريال سوسيداد وأتلتيك بيلباو

شمال إسبانيا، حيث تتداخل الجبال الخضراء مع نسيم الأطلسي، وحيث تنبع الشخصية الباسكية من أعماق التاريخ، يحتدم أحد أكثر الديربيات خصوصية في عالم كرة القدم: "ديربي الباسك"، المواجهة التي تجمع بين ريال سوسيداد من مدينة سان سيباستيان، وأتلتيك بيلباو من العاصمة الاقتصادية للإقليم، مدينة بلباو.
ورغم أن اللقاء ينتمي إلى الدوري الإسباني كغيره من المباريات، إلا أن ما يدور على أرضية الملعب يتجاوز النقاط الثلاث، ليُصبح معركة من أجل الهوية، الكرامة، والانتماء.
تاريخ ممتد وجذور عميقة
يعود أول لقاء رسمي بين الفريقين إلى عام 1913، ومنذ ذلك الحين، تجاوزت عدد المواجهات الرسمية بين الغريمين حاجز الـ170 مباراة، كانت غالبيتها في الدوري الإسباني، إضافة إلى مواجهات في كأس الملك، أبرزها النهائي التاريخي عام 2020 (أقيم في 2021 بسبب الجائحة)، والذي شهد تتويج ريال سوسيداد باللقب على حساب غريمه بهدف دون رد.
لكن خلف هذا التنافس الرياضي تقف قصة أعمق بكثير. فالناديان، رغم انتمائهما للإقليم ذاته، يمثلان وجهين مختلفين للهوية الباسكية.
الفلسفة والسياسة.. أصل الصراع
اتخذ أتلتيك بيلباو منذ تأسيسه عام 1898 مسارًا فريدًا في كرة القدم العالمية، حيث تبنى سياسة "اللاعبين الباسكيين فقط"، رافضًا التعاقد مع أي لاعب من خارج الإقليم أو من غير أصول باسكية. وعلى الرغم من أن ريال سوسيداد سلك نفس النهج لفترة طويلة، إلا أنه قرر عام 1989 كسر القاعدة والسماح بالتوقيع مع لاعبين أجانب، وهو القرار الذي زاد من الفجوة الفلسفية بين الناديين.
سياسيًا، تعكس المدينتان توجهات مختلفة أيضًا: بيلباو مدينة صناعية تقدمية ذات ميول يسارية قوية، بينما تُعرف سان سيباستيان بطابعها الساحلي النخبوي الأكثر تحفظًا، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على جماهير الناديين وهويتهم.
اللاعبون بين نارين.. الانتقال الممنوع
رغم الجوار الجغرافي والانتماء المشترك، يبقى الانتقال المباشر بين الناديين قضية شائكة وحساسة. فقد أثار عدد من الانتقالات التاريخية جدلًا واسعًا بين الجماهير، من أبرزها:
بيجوين لاريناجا: من أوائل من ارتدوا قميصي الفريقين في الخمسينيات.
خوسيه أنخيل إيريبار: حارس بيلباو الأسطوري، بدأ مسيرته في سوسيداد.
بيتور ألكيزا: لاعب خط الوسط الذي انتقل من سوسيداد إلى بيلباو عام 1994، في صفقة وُصفت بـ"الخيانة الكروية".
تلك الانتقالات، وإن كانت نادرة، تؤكد أن العلاقة بين الناديين لا يحكمها المنطق الرياضي فقط، بل تغذيها العاطفة والتاريخ.
نتائج لا تُنسى
من بين المواجهات الكثيرة بين الفريقين، تبرز بعض النتائج التي ظلت عالقة في الأذهان:
أتلتيك بيلباو 7-1 ريال سوسيداد (1932): انتصار كاسح يؤرخ لفترة تفوق بيلباوي واضح.
ريال سوسيداد 5-0 أتلتيك بيلباو (1995): رد قاسٍ على ملعب أنويتا، يُعد أحد أكبر الانتصارات في تاريخ الديربي.
نهائي كأس الملك 2020: تتويج استثنائي لريال سوسيداد بلقبه الأول منذ 1987، جاء على حساب غريمه التاريخي.
الاحترام رغم التنافس
ورغم شراسة المواجهة داخل الملعب، يتميز ديربي الباسك بقدر كبير من الاحترام المتبادل بين الجماهير واللاعبين، إذ غالبًا ما يشهد اللقاء التقاط صور جماعية مشتركة، ومظاهر تضامن بين الطرفين لا تُشاهد في أغلب ديربيات العالم.
ولكن هذا الاحترام لا يلغي الحدة، فالمباراة تُخاض كما لو كانت بطولة مستقلة، وأي نتيجة تُسجل في تاريخ المدينة إلى الأبد.