لم يعد الأمر مزحة، ولا يمكن أن يُختزل في كونه تطبيقا ترفيهيا أو منصة عابرة لمشاركة المقاطع القصيرة. نحن أمام كارثة مكتملة الأركان، تتغلغل في العقول، وتُفسد الذوق، وتُخرّب الضمير العام بمحتوى يخلع كل رداء اخلاقي ، ويرقص على أنقاض القيم باسم “الترند”!
لأول مرة، وأنا الذي انتمي لمدرسة صحفية ليبرالية تُناصر حرية التعبير على إطلاقها، أجد نفسي في موضع لا يقبل الحياد. لا رقابة هنا، بل وقفة ضمير؛ لأن ما يفعله “تيك توك” وأتباعه – أو قل: مرتزقته – لم يعد تسلية خفيفة، بل انحرافا متعمدا ، ومنهجية لهدم الأخلاق، مدفوعة الأجر، ومبنية على تحويل التفاهة إلى صناعة مربحة، والانحطاط إلى وسيلة ارتزاق.
المنصة التي بدأت كأداة للمحتوى المرح والمواهب الصاعدة، تحوّلت تدريجياً إلى مسرح سريالي للفجور العلني، والعُري المجتمعي، والتحرش البصري، وتبادل الشتائم، وتفجير الفضائح المفبركة، حتى صار أبناؤنا يتلقون جرعتهم اليومية من السُم الرقمي، وهم يظنون أنهم يلهون!
منذ أيام، تحولت المنصة إلى حلبة رخيصة للنميمة المجتمعية وتبادل الاتهامات الخطيرة في قضايا تمس الأمن القومي، دون دليل، ودون رقيب، بل بصفاقة تُباهي بتلويث الوعي العام.
شخصيات طُفيلية خرجت من الظل إلى الواجهة. ممثلات مغمورات، ونشطاء مزيفون، وأبواق منزوعة الضمير، باتوا “نجوماً” لأنهم أتقنوا تسويق الانحلال، واستخدموا الجسد، أو الشتيمة، أو الإيحاء الرخيص كوسيلة للانتشار.
بل إن ما هو أخطر من المحتوى، هو صمت بعض الأهالي الذين يتركون أبناءهم فريسة لتلك النماذج السامة، دون رقابة أو توعية، ظناً منهم أن ما يرونه مجرد لهو عابر، بينما الحقيقة أن ما يجري على “تيك توك” هو عملية تفريغ قيمي، وغسيل أدمغة ناعم، وإعادة تشكيل خطيرة لأولويات وميول المراهقين والأطفال.
ولننسَ للحظة ما يدور على الشاشة، فـ”تيك توك” نفسه كان ولا يزال محور صراع استخباري واقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، بسبب قضايا تتعلق ببيع بيانات المستخدمين، وغسيل الأموال، والارتباط بالدارك ويب، وصولاً إلى شبهات بالاتجار بالبشر.
الولايات المتحدة هددت بحظره لأنها لا تثق في نواياه، أما نحن ففتحنا له بيوتنا، وسلمنا أبناءنا له طواعية، لنُفاجأ لاحقا بأن “المحتوى” صار “مخدراً بصرياً"يخلق قدوات كاذبة، وينتج مشروعات نجومية قائمة على الإسفاف.
وهنا تأتي أهمية ما قامت به وزارة الداخلية مؤخراً، حين تحركت سريعاً للقبض على بعض من تصدروا المشهد في هذه الفوضى، لاستجوابهم حول مصادر ثرواتهم، وطبيعة المحتوى الذي يقدمونه، والبلاغات المقدمة ضدهم.
إنها خطوة أمنية جريئة، تصب في خانة إصلاح المنظومة الأخلاقية، لا مجرد استجابة لتقارير جنائية. وهي تأكيد على أن أمن المجتمع لا يقل أهمية عن أمن الحدود.
لسنا دعاة قمع، لكننا ضد الانفلات. ولسنا خصوما للحريات، لكننا نرفض أن تتحول الحرية إلى غطاء لتمزيق النسيج الأخلاقي وتلويث المجال العام.
فليس كل منع قمعاً، بل احيانا يكون المنع حماية للحق، وضمانا للاستقرار، وصيانة لمستقبل أجيال بأكملها.
لقد آن الأوان أن يُعامل “تيك توك” بما يستحقه من جدية. لا باعتباره تطبيقا ترفيهيا، بل كأداة خبيثة لإعادة هندسة وعي المجتمع من الأسفل، عبر التفاهة، والانحلال، والترويج لنموذج مضاد لكل ما هو محترم، وعاقل، وراقي.
تحية لرجال الشرطة، حين يُدركون أن الخطر لم يعد فقط قنبلة مزروعة في طريق عام، بل فكرة مسمومة مزروعة في عقل مراهق يحمل هاتفا ذكيا، ويظن أنه يلهو!