عاجل

في عام 2025، يقف القرن الأفريقي على مفترق طرق تاريخي وسط سلسلة من الأزمات المتشابكة التي تجاوزت حدود الدول لتتحول إلى منظومة إقليمية مضطربة ،التي لطالما وُصفت بأنها بؤرة توتر مزمن، تشهد اليوم تحولات متسارعة في بنيتها السياسية والأمنية، وقد يكون ما نراه الآن هو إرهاصات ميلاد نظام إقليمي جديد، لا يشبه ما كان عليه الحال في العقود الماضية.


تبدأ ملامح هذه المرحلة من السودان، الذي دخل عامه الثاني من الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، حرب حولت العاصمة الخرطوم إلى مدينة أشباح، وأجبرت الملايين على الفرار داخليًا وخارجيًا تفكك مؤسسات الدولة وانهيار النظام المركزي أفسحا المجال أمام بروز قوى محلية ومنطقية باتت تفرض نفسها كلاعب سياسي، بينما تنشط وساطات إقليمية محدودة التأثير وسط صمت دولي متردد، هذه الأزمة لم تبقَ محصورة داخل السودان، بل انعكست على دول الجوار، خاصة جنوب السودان وتشاد وإثيوبيا، حيث تزايدت حركة النزوح وانتقلت عدوى التوترات عبر الحدود.


أما إثيوبيا، التي شهدت في السنوات القليلة الماضية حربًا أهلية طاحنة في إقليم تغيراي، فلا تزال رغم اتفاق السلام الذي وُقّع في نيروبي، ترزح تحت ضغوط النزاعات الداخلية، الصراع العرقي والسياسي بين الأمهرة والأورومو لا يزال متصاعدًا، والدولة الفيدرالية تواجه صعوبات في فرض سيطرتها على مختلف الأقاليم، في هذا السياق، يسعى رئيس الوزراء آبي أحمد إلى توسيع النفوذ الإثيوبي نحو البحر الأحمر، تحديدًا من خلال الاتفاق مع "أرض الصومال" للحصول على منفذ بحري، وهو ما أثار موجة من التوتر الدبلوماسي مع الصومال وفتح الباب أمام سباق إقليمي على الموانئ والمياه.


الصومال من جهته يحاول استعادة تماسكه السياسي، ويبدو أنه بدأ يتحول إلى نقطة ارتكاز استراتيجية في الصراع الإقليمي، الحكومة الفيدرالية في مقديشو تلقت دعمًا متزايدًا من تركيا وقطر وبعض الدول العربية، وتواجه في ذات الوقت تهديدات من حركة الشباب المتشددة، ومن التدخلات الخارجية التي تسعى إلى تمزيق وحدته النزاع مع أرض الصومال حول الانفصال وتوقيع اتفاقات خارجية بدون الرجوع إلى الحكومة المركزية، هو مؤشر إضافي على هشاشة الوضع.


إريتريا تظل لاعبًا غامضًا لكنه مؤثر الدولة المنعزلة سياسيًا تعزز علاقاتها الأمنية مع بعض الأطراف، وتمارس دورًا أمنيًا غير معلن على حدود إثيوبيا، وتحتفظ بجيش قوي في منطقة استراتيجية، في الخلفية، هناك تحركات خفية للقوى الكبرى، من الصين وروسيا إلى الولايات المتحدة وفرنسا، وكل منها يسعى للحصول على موطئ قدم في موانئ البحر الأحمر أو قواعد عسكرية تحمي مصالحها.


أما الدول العربية المجاورة مثل مصر والسعودية والإمارات، فقد دخلت بدورها في معادلة القرن الأفريقي من باب الأمن القومي والاستثمار الاقتصادي، مصر تنظر بعين القلق إلى تطورات سد النهضة، وتتابع عن كثب التمدد الإثيوبي نحو البحر، فيما تسعى دول الخليج إلى الاستثمار في الموانئ والزراعة والبنية التحتية، في محاولة لصياغة نفوذ طويل الأمد في هذه المنطقة المتغيرة.


كل هذه التفاعلات تعيد رسم خرائط التأثير داخل القرن الأفريقي، من دولة محورية واحدة إلى فسيفساء من القوى المحلية والإقليمية والدولية، يتشكل واقع جديد يبدو فيه أن الأنظمة المركزية الهرمية تتراجع لصالح هياكل أكثر مرونة وتعددًا، وإن كانت أكثر هشاشة أيضًا، السؤال إن كان النظام الإقليمي سيتغير، بل متى وكيف وبأي ثمن، خاصة أن التحولات تتم وسط انهيارات اقتصادية، وكوارث بيئية، وجوع يهدد أكثر من 60 مليون إنسان في المنطقة.
هكذا، يبدو القرن الأفريقي في عام 2025 مختبرًا سياسيًا مفتوحًا، تتقاطع فيه مصالح محلية ودولية، وتجري فيه إعادة تعريف للسلطة والحدود والتوازنات، وقد يكون هذا بالفعل زمن ولادة نظام إقليمي جديد، لكنه نظام يولد وسط فوضى، وليس في سياق استقرار

تم نسخ الرابط