الملك الذي لم يغِب.. حكاية فريد شوقي في ذكرى مولده

في مثل هذا اليوم من عام 1921، وُلد الفنان الكبير فريد شوقي بحي السيدة زينب العريق في قلب القاهرة، وسط أجواء شعبية مشبعة بالقصص والحكايات، ساهمت في تشكيل وجدانه الإنساني والفني منذ سنواته الأولى. لم يكن مجرد طفل في حي شعبي، بل كان مشروع فنانٍ عظيم بدأت ملامحه تتكوّن مبكرًا داخل أسرة مصرية من أصول تركية، كان والده يعمل مفتشًا بمصلحة الأملاك الأميرية التابعة لوزارة المالية، وهي الوظيفة التي شغلها فريد نفسه لاحقًا، قبل أن يتركها لأجل الفن.
البداية من المسرح.. والاقتراب من العمالقة
التحق فريد شوقي بمدرسة "الناصرية" الابتدائية وتخرج منها عام 1937، ثم واصل تعليمه في مدرسة الفنون التطبيقية، ومنها حصل على دبلوم. لكن قلبه كان في مكان آخر: المسرح. تأثر بعلاقة والده الوطيدة مع الكاتب المسرحي عبد الجواد محمد، سكرتير فرقة رمسيس، وبدأ في حضور عروض الفرق المسرحية الكبرى. هناك، في الكواليس ومقاعد المتفرجين، وُلد الحلم الكبير.
خلال دراسته، انخرط فريد في فرق الهواة المسرحية، وتعلّم على يد المخرج عزيز عيد، ووقف على خشبة المسرح بجوار كبار النجوم مثل يوسف وهبي، نجيب الريحاني، فاطمة رشدي، علي الكسار، جورج أبيض، وهو ما شكّل ركيزة قوية لبداياته الاحترافية. ورغم عمله الحكومي، كان المسرح هو عشقه الحقيقي، ما دفعه لاحقًا لترك الوظيفة والتفرغ للفن تمامًا.
بداية احترافية.. ثم انطلاقة مدوية
في عام 1945، التحق فريد شوقي بالمعهد العالي للفنون المسرحية في أولى سنوات تأسيسه، وحصل على دبلوم التمثيل. بدأ مشواره الفني من بوابة أدوار الشر، سواء على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، إلا أن التحول الحقيقي في مسيرته جاء بعد ثورة 1952، حين تعاون مع المخرج صلاح أبو سيف في فيلم "الأسطى حسن"، الذي أعاد تقديم فريد شوقي في شخصية جديدة تمامًا: "ابن البلد"، البسيط، النبيل، والمكافح. كان الفيلم بمثابة ولادة جديدة له، غيّرت ملامح مشواره الفني.
نجم الشباك والبطل الشعبي
لم يكن "الأسطى حسن" مجرد نجاح عابر، بل فتح الباب أمام سلسلة من الأفلام التي شكّلت جزءًا من الوعي الجمعي للمجتمع المصري، مثل "حميدو"، "رصيف نمرة 5"، و"النمرود". ثم بدأت مرحلة جديدة، حيث قرر فريد شوقي كتابة وإنتاج أفلامه بنفسه، ليصبح أكثر سيطرة على صورته الفنية ورسائله المجتمعية، وقدّم أعمالًا مثل "جعلوني مجرمًا" و"بورسعيد"، التي كرّست مكانته كـ"بطل شعبي" يعبر عن نبض الشارع.
امتدت مسيرته الفنية لأكثر من خمسين عامًا، قدّم خلالها مئات الأدوار المتنوعة التي عبّرت عن كافة شرائح المجتمع، ما بين البطل، والشرير، والأب، والعاشق، ورجل القانون، وابن البلد. وكانت شخصياته دومًا نابضة بالحياة، تحمل همومًا حقيقية، وتتحدث بلسان الناس.
شجاعة فنية وصدق نادر
في تصريحات للناقد طارق الشناوي، قال إن فريد شوقي تمتع بجاذبية نادرة لدى الجمهور، الذي منحه "شيكًا على بياض"، وكان يتسامح مع أي إخفاقات فنية. لكن ما يميز "الملك" فعلًا هو صدقه مع نفسه وجمهوره، فقد اعترف لاحقًا بأنه شارك في بعض "أفلام المقاولات" نتيجة الظروف المادية، وهو اعتراف نادر في عالم الفن، يدل على إنسان حقيقي قبل أن يكون نجمًا.
"الملك".. ليس مجرد لقب
لم يكن لقب "الملك" الذي أطلقه عليه الفنانون مجرد تعبير عن المحبة، بل كان تتويجًا لمسيرة فنية استثنائية، ولشخصية فنية بقيت حاضرة حتى اللحظات الأخيرة من حياتها. ظل فريد شوقي يعمل ويبدع حتى أيامه الأخيرة، دون أن يتوقف عن التجديد أو السعي لتقديم شيء مختلف، ليبقى حتى بعد وفاته رمزًا للنجومية الحقيقية، والالتزام، والوطنية.
إرث لا يُنسى
تمر اليوم ذكرى ميلاد فريد شوقي، وتبقى سيرته عامرة بالعطاء، ويظل إرثه الفني شاهدًا على زمن الفن الجميل، حيث كان للفنان موقف، ولقصص الشاشة معنى، وللنجومية بُعد إنساني يتجاوز حدود الكاميرا. فريد شوقي لم يكن فقط نجمًا سينمائيًا، بل كان حالة فنية وإنسانية متكاملة، من تلك التي لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الفن العربي.