عاجل

نعيش اليوم في زمن عجيب، زمن تختلط فيه الحقائق بالأكاذيب، وتُقلب فيه الموازين، فيصبح المُدافع عن الوطن خائناً، والخائن الحقيقي بطلاً.. إنه زمن الخداعات الذي تنبأ به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: "سيأتي على أمتي سنوات خداعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُخوّن فيها الأمين، ويُؤتمن فيها الخائن"، وها نحن نشهد تطبيقاً حرفياً لهذا الحديث الشريف في واقعنا المعاصر.. اكتب وأنا اعلم أن كلامى لن يفهمه الكثيرون، وعلي يقين تام بأن البعض من مجرد قراءة العنوان سيهاجموننى لإغلاق عقولهم، ولكن الساكت عن الحق شيطان اخرس، خاصة عندما نرى الوطن يُهان بهذا الشكل الظالم؛

 

المشهد يثير الدهشة والاستغراب، نرى متظاهرين يقفون أمام السفارة المصرية في عواصم عربية وأجنبية، يرفعون شعارات الغضب ضد مصر، بينما تبقى سفارات الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الداعمة للاحتلال آمنة مطمئنة، لا يطرق بابها أحد، ولا يُزعج راحة دبلوماسييها مُحتج، هذا التناقض الصارخ يكشف عمق الانحدار الأخلاقي والفكري الذي وصلنا إليه، حيث أصبح الأعداء أصدقاء، والأصدقاء أعداء.

 

إن هؤلاء الذين يضعون الأقفال على قلوبهم وعقولهم قبل أن يضعوها على أبواب السفارات، قد ألغوا دماغهم بالكامل، ولم يعودوا قادرين على التمييز بين الحق والباطل، بين الصديق والعدو، فبدلاً من توجيه غضبهم نحو القتلة الحقيقيين في تل أبيب وواشنطن، يوجهونه نحو القاهرة التي تفتح ذراعيها للأشقاء الفلسطينيين منذ عقود، وتقدم لهم كل ما تستطيع من دعم ومساندة.

 

والأمر الأكثر إثارة للاشمئزاز هو وجود فئة من هؤلاء المتظاهرين ممولة من جماعات معادية لمصر، جماعات تحمل أجندات مشبوهة وتسعى لزعزعة الاستقرار في المنطقة، هؤلاء ليسوا مدفوعين بحب فلسطين أو غضب من المعاناة الفلسطينية، بل بكراهية عمياء لمصر ورغبة في النيل منها وإضعافها، إنهم يستغلون القضية الفلسطينية المقدسة لتحقيق أهداف خبيثة لا علاقة لها بالعدالة أو الإنسانية.

 

ومن المؤسف أن نرى كيف يتم ربط الوطن بأشخاص معينين أو قيادات محددة، فإذا لم تُعجب هؤلاء المتظاهرين سياسة ما أو موقف ما، سارعوا إلى إدانة الوطن بأكمله والإساءة إليه، هذا منطق أعوج وفهم مغلوط لمعنى الوطنية الحقيقية.. الوطن ليس شخصاً واحداً أو قيادة واحدة، الوطن هو التاريخ والجغرافيا والحضارة والشعب والمؤسسات والثوابت الوطنية التي لا تتغير بتغير الأشخاص.

 

وفي وسط هذا الضباب الكثيف من الأكاذيب والتضليل، نجد تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تؤيد هذه الأكاذيب وتروج لها، كأن أصحابها قد أُصيبوا بالعمى الاختياري، فلا يرون إغلاق سفارات الاحتلال الإسرائيلي في دول عديدة، ولا يرون الاحتجاجات الحقيقية أمام البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي، ولا يرون المساعدات المصرية اليومية التي تدخل إلى غزة عبر معبر رفح.

 

إن الحقيقة التي يحاول البعض طمسها هي أن مصر لم تُغلق ولن تُغلق معبر رفح.. هذه مجرد روايات نتنياهو الكاذبة التي يروجها لخدمة أجندته الشيطانية، ولكن لماذا يقول نتنياهو ذلك؟ السبب بسيط وواضح لكل من له عقل يفكر به: مصر أغلقت المعبر من جانبها للخروج من غزة فقط، وليس للدخول إليها، وذلك لمنع التهجير القسري للفلسطينيين الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه، وما سيترتب علي تصفية القضية الفلسطينية، فما يحدث ما هو إلا خدمة لمخطط إسرائيل ونتنياهو.

 

إسرائيل تريد فتح المعبر من جانبها ومن الجانب المصري للقادمين من غزة لأنها تريد إفراغ القطاع من سكانه وتحقيق حلمها القديم في تهجير الشعب الفلسطيني، هذا ما ترفضه مصر بشدة وتقف ضده بكل قوة، لأنها تعلم أن التهجير القسري جريمة ضد الإنسانية وانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، أما بالنسبة لإدخال المساعدات الإنسانية، فإن الأمر لا يمكن أن يتم إلا من خلال قوات الاحتلال الإسرائيلي، لأنها هي التي تسيطر على معبر كرم أبو سالم الذي تمر من خلاله شاحنات المساعدات.

 

هذه هي الحقائق الواضحة والثابتة، ولكن في زمن الخداعات، تصبح الحقائق اتهامات، والأكاذيب حقائق.. في زمن الخداعات، يُتهم من يدافع عن وطنه بالخيانة، ويُمدح من يطعنه في الظهر بالوطنية، في زمن الخداعات، تُقلب الموازين ويُشوه التاريخ وتُزيف الحقائق.

 

إن ما نشهده اليوم من انحدار أخلاقي وفكري يتطلب منا وقفة جادة ومراجعة شاملة لقيمنا ومبادئنا، يتطلب منا أن نعود إلى جذورنا الحضارية وتعاليم ديننا الحنيف الذي يحثنا على العدل والإنصاف وقول الحق ولو كان مراً.. يتطلب منا أن نميز بين الحق والباطل، وأن نقف مع المظلوم ضد الظالم، وأن نحارب الأكاذيب بالحقائق.

 

إن مصر، بتاريخها العريق وحضارتها الخالدة ودورها المحوري في دعم القضايا العربية والإسلامية، تستحق منا الدفاع والمساندة، لا الطعن والإهانة.. مصر التي قدمت آلاف الشهداء في سبيل فلسطين، مصر التي فتحت أبوابها للاجئين الفلسطينيين، وكل العرب، مصر التي ترسل المساعدات يومياً إلى غزة، هذه المصر تستحق الاحترام والتقدير، لا الاتهام والتشويه.

 

في الختام، أقول لكل من انساق وراء هذه الأكاذيب: افتحوا عيونكم وقلوبكم للحقيقة، انظروا إلى الأرقام والوثائق والحقائق الثابتة، لا تدعوا الكراهية والحقد يعميانكم عن رؤية الواقع.. إن الشعب الفلسطيني الشقيق يعلم جيداً من هم أصدقاؤه الحقيقيون ومن هم أعداؤه، ولن تنطلي عليه هذه الألاعيب الرخيصة والمحاولات اليائسة لزرع الفتنة بين الأشقاء.

 

إننا في زمن يحتاج فيه العالم العربي والإسلامي إلى الوحدة والتضامن أكثر من أي وقت مضى، لا إلى التفرق والتشرذم.. فلنكن على قدر المسؤولية، ولنضع مصلحة الأمة فوق المصالح الضيقة والأهواء الشخصية، ولنتذكر دائماً أن الحق سينتصر في النهاية، مهما طال الليل ومهما اشتدت العاصفة، فالفجر آت لا محالة.

تم نسخ الرابط